الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ ٱلأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ }

لما دلّت رُبّ على التقليل اقتضت أن استمرارهم على غلوائهم هو أكثر حالهم، وهو الإعراض عما يدعوهم إليه الإسلام من الكمال النفسي، فبإعراضهم عنه رضوا لأنفسهم بحياة الأنعام، وهي الاقتصار على اللذات الجسدية، فخوطب الرسول صلى الله عليه وسلم بما يُعرّض لهم بذلك من أن حياتهم حياة أكل وشرب. وذلك مما يتعيّرون به في مجاري أقوالهم كما في قول الحطيئة
دَع المكارم لا تنهض لبُغيتها واقعُدْ فإنك أنتَ الطاعم الكاسي   
وهم منغمسون فيما يتعيّرون به في أعمالهم قال تعالىوالذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم } سورة محمد 12. و { ذر } أمر لم يسمع له ماض في كلامهم. وهو بمعنى الترك. وتقدم في قولهوذر الذين اتّخذوا دينهم لعباً ولهواً } في سورة الأنعام 70. والأمر بتركهم مستعمل في لازمه وهو قلة جدوى الحرص على إصلاحهم. وليس مستعملاً في الإذن بمتاركتهم لأن النبي مأمور بالدوام على دعائهم. قال تعالى وذر الذين اتخذوا دينهم لعباً إلى قولهوذكّر به أن تبسل نفس بما كسبت } سورة الأنعام 70. فما أمره بتركهم إلا وقد أعقبه بأمره بالتذكير بالقرآن فعلم أن الترك مستعمل في عدم الرجاء في صلاحهم. وهذا كقول كبشة أُخت عمرو بن معد يكرب في قتل أخيها عبد الله تستنهض أخاها عمراً للأخذ بثأره
وَدَعْ عنك عمرا إن عَمْرا مُسالِم وهل بَطن عَمرو غيرُ شِبر لمَطْعَم   
وقد يستعمل هذا الفعل وما يراد به كناية عن عدم الاحتياج إلى الإعانة أو عن عدم قبول الوساطة كقوله تعالىذرني ومن خلقت وحيدا } سورة المدثر 11، وقولهوذرني والمكذبين } سورة المزمل 11. وقد يستعمل في الترك المجازي بتنزيل المخاطب منزلة المتلبّس بالضدّ كقول أبي تمام
دعوني أنُحْ من قبل نوح الحمائم ولا تجعلوني عُرضة للوَائِم   
إذ مثل هذا يقال عند اليأس والقنوط عن صلاح المرء. وقد حذف متعلق الترك لأن الفعل نزل منزلة ما لا يحتاج إلى متعلق، إذ المعني به ترك الاشتغال بهم والبعد عنهم، فلذلك عدّي فعل الترك إلى ذواتهم ليدل على اليأس منهم. و { يأكلوا } مجزوم بلام الأمر محذوفة كما تقدم بيانه عند قوله تعالىقل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة } في سورة إبراهيم 31. وهو أمر للتوبيخ والتوعد والإنذار بقرينة قوله { فسوف يعلمون }. وهو كقولهكلوا وتمتعوا قليلاً إنكم مجرمون } سورة المرسلات 46. ولا يحسن جعله مجزوماً في جواب { ذرهم } لأنهم يأكلون ويتمتعون سواء ترك الرسول صلى الله عليه وسلم دعوتهم أم دعاهم. والتمتع الانتفاع بالمتاع. وقد تقدم غير مرة، منها قولهومتاع إلى حين } في سورة الأعراف 24. وإلهاء الأمل إياهم هو إنساؤه إياهم ما حقهم أن يتذكروه بأن يصرفهم تطلب ما لا ينالون عن التفكير في البعث والحياة الآخرة. و { الأمَلُ } مصدر. وهو ظن حصول أمر مرغوب في حصوله مع استبعاد حصوله. فهو واسطة بين الرجاء والطمع. ألا ترى إلى قول كعب
أرجو وآمُل أن تدنو مودتها وما إخال لدينا منك تنويل   
وتفرع على التعريض التصريح بالوعيد بقوله { فسوف يعلمون } بأنه مما يستعمل في الوعيد كثيراً حتى صار كالحقيقة. وفيه إشارة إلى أن لإمهالهم أجلاً معلوماً كقولهوسوف يعلمون حين يرون العذاب } سورة الفرقان 42.