الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ } * { وَٱلْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ ٱلسَّمُومِ }

تكملة لإقامة الدليل على انفراده تعالى بخلق أجناس العوالم وما فيها. ومنه يتخلص إلى التذكير بعداوة الشيطان للبشر ليأخذوا حذرهم منه ويحاسبوا أنفسهم على ما يخامرها من وَسْواسه بما يرديهم. جاء بمناسبة ذكر الإحياء والإماتة فإن أهم الإحياء هو إيجاد النوع الإنساني. ففي هذا الخبر استدلال على عظيم القدرة والحكمة وعلى إمكان البعث، وموعظةٌ وذكرى. والمراد بالإنسان آدم ــــ عليه السلام ــــ. والصلصال الطين الذي يترك حتى ييبس فإذا يبس فهو صلصال وهو شبه الفَخّار إلا أن الفَخّار هو ما يبس بالطبخ بالنّار. قال تعالىخلق الإنسان من صلصال كالفخار } سورة الرحمن 14. والحَمأ الطين إذا اسودّ وكرهت رائحته. وقوله { من حمإ } صفة لــــ { صلصال } و { مسنون } صفة لــــ { حمإ } أو لــــ { صلصال }. وإذ كان الصلصال من الحمأ فصفة أحدهما صفة للآخر. والمسنون الذي طالت مدة مكثه، وهواسم مفعول من فعل سنّهُ إذا تركه مدة طويلة تشبه السّنة. وأحسب أن فعل سَن بمعنى ترك شيئاً مدة طويلة غيرُ مسموع. ولعل تَسَنّه بمعنى تغيّر من طول المدّة أصله مطاوع سَنه ثم تنوسي منه معنى المطاوعة. وقد تقدم قوله تعالىلم يتسنّه } في سورة البقرة 259. والمقصود من ذكر هذه الأشياء التنبيه على عجيب صنع الله تعالى إذ أخرج من هذه الحالة المهينة نوعاً هو سيد أنواع عالم المادة ذات الحياة. وفيه إشارة إلى أن ماهية الحياة تتقوم من الترابية والرطوبة والتعفن، وهو يعطي حرارة ضعيفة. ولذلك تنشأ في الأجرام المتعفّنة حيوانات مثل الدود، ولذلك أيضاً تنشأ في الأمزجة المتعفّنة الحمى. وفيه إشارة إلى الأطوار التي مرّت على مادة خلق الإنسان. وتوكيد الجملة بلام القسم وبحرف قد لزيادة التحْقيق تنبيهاً على أهميّة هذا الخلق وأنه بهذه الصفة. وعطف جملة { والجانّ خلقناه } إدماج وتمهيد إلى بيان نشأة العداوة بين بني آدم وجُند إبليس. وأكدت جملة { والجان خلقناه } بصيغة الاشتغال التي هي تقوية للفعل بتقدير نظيره المحذوف، ولما فيها من الاهتمام بالإجمال ثم التفصيل لمثل الغرض الّذي أكدت به جملة { ولقد خلقنا الإنسان } الخ. وفائدة قوله { من قبل } أي من قبل خلق الإنسان تعليم أن خلق الجانّ أسبق لأنّه مخلوق من عنصر الحرارة والحرارة أسبق من الرطوبة. و { السموم } ــــ بفتح السين ــــ الريح الحارة. فالجنّ مخلوق من النارية والهوائية ليحصل الاعتدال في الحرارة فيقبل الحياة الخاصة اللائقة بخلقة الجنّ، فكما كَوّن الله الحمأةَ الصلصالَ المسنونَ لخلق الإنسان، كَون ريحاً حارة وجعل منها الجنّ. فهو مكون من حرارة زائدة على مقدار حرارة الإنسان ومن تهوية قويّة. والحكمة كلّها في إتقان المزج والتركيب.