الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَٱلَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ ٱللَّهُ جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِٱلْبَيِّنَـٰتِ فَرَدُّوۤاْ أَيْدِيَهُمْ فِيۤ أَفْوَٰهِهِمْ وَقَالُوۤاْ إِنَّا كَفَرْنَا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَآ إِلَيْهِ مُرِيبٍ }

هذا الكلام استئناف ابتدائيّ رجع به الخطاب إلى المشركين من العرب على طريقة الالتفات في قوله { ألم يأتكم } ، لأن الموجّه إليه الخطاب هنا هم الكافرون المعنيون بقولهوويل للكافرين من عذاب شديد } سورة إبراهيم 2، وهم معظم المعنيّ من الناس في قولهلتخرج الناس من الظلمات إلى النور } سورة إبراهيم 1، فإنهم بعد أن أُجمل لهم الكلام في قوله تعالىوما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم } سورة إبراهيم 4 الآية، ثم فُصّل بأن ضُرب المثل للإِرسال إليهم لغرض الإخراج من الظلمات إلى النور بإرسال موسى عليه السلام لإخراج قومه، وقُضي حق ذلك عقبه بكلام جامع لأحوال الأمم ورسلهم، فكان بمنزلة الحوصلة والتذييل مع تمثيل حالهم بحال الأمم السالفة وتشابه عقلياتهم في حججهم الباطلة وردّ الرسل عليهم بمثل ما رَدّ به القرآن على المشركين في مواضع، ثم ختم بالوعيد. والاستفهام إنكاري لأنهم قد بلغتهم أخبارهم، فأما قوم نوح فقد تواتر خبرهم بين الأمم بسبب خبر الطوفان، وأما عاد وثمود فهم من العرب ومساكنهم في بلادهم وهم يمرون عليها ويخبر بعضهم بعضاً بها، قال تعالىوسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم } سورة إبراهيم 45 وقالوإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل أفلا تعقلون } سورة الصافات 137. و { الذين من بعدهم } يشمل أهل مدين وأصحابَ الرس وقومَ تُبّع وغيرَهم من أمم انقرضوا وذهبت أخبارهم فلا يعلمهم إلا الله. وهذا كقوله تعالىوعادا وثمودا وأصحاب الرس وقرونا بين ذلك كثيرا } سورة الفرقان 38. وجملة { لا يعلمهم إلا الله } معترضة بين { والذين من بعدهم } وبين جملة { جاءتهم رسلهم بالبينات } الواقعة حالاً من { والذين من بعدهم } ، وهو كناية عن الكثرة التي يستلزمها انتفاء علم الناس بهم. ومعنى { جاءتهم رسلهم } جاءَ كلّ أمة رسولُها. وضمائر { ردّوا } و { أيديهم } و { أفواههم } عائدٌ جميعها إلى قوم نوح والمعطوفات عليه. وهذا التركيب لا أعهد سبق مثله في كلام العرب فلعله من مبتكرات القرآن. ومعنى { فردوا أيديهم في أفواههم } يحتمل عدة وجوه أنهاهَا في «الكشاف» إلى سبعة وفي بعضها بُعدٌ، وأولاها بالاستخلاص أن يكون المعنى أنهم وضعوا أيديهم على أفواههم إخفاء لشدة الضحك من كلام الرسل كراهية أن تظهر دواخل أفواههم. وذلك تمثيل لحالة الاستهزاء بالرسل. والردّ مستعمل في معنى تكرير جعل الأيدي في الأفواه كما أشار إليه «الراغب». أي وضعوا أيديهم على الأفواه ثم أزالوها ثم أعادوا وضعها فتلك الإعادة رَدّ. وحرف { في } للظرفية المجازية المراد بها التمكين، فهي بمعنى { على } كقولهأولئك في ضلال مبين } سورة الزمر 22. فمعنى { ردّوا أيديهم في أفواههم } جعلوا أيديهم على أفواههم. وعطفه بفاء التعقيب مشير إلى أنهم بادروا بردّ أيديهم في أفواههم بفور تلقيهم دعوة رسلهم، فيقتضي أن يكون ردّ الأيدي في الأفواه تمثيلاً لحال المتعجب المستهزىء، فالكلام تمثيل للحالة المعتادة وليس المراد حقيقته، لأن وقوعه خبراً عن الأمم مع اختلاف عوائدهم وإشاراتهم واختلاف الأفراد في حركاتهم عند التعجب قرينة على أنه ما أريد به إلاّ بيان عَربي.

السابقالتالي
2