الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ يَوْمَ تُبَدَّلُ ٱلأَرْضُ غَيْرَ ٱلأَرْضِ وَٱلسَّمَٰوَٰتُ وَبَرَزُواْ لِلَّهِ ٱلْوَاحِدِ الْقَهَّارِ } * { وَتَرَى ٱلْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي ٱلأَصْفَادِ } * { سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَىٰ وُجُوهَهُمُ ٱلنَّارُ } * { لِيَجْزِىَ ٱللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ إِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ }

استئناف لزيادة الإنذار بيوم الحساب، لأن في هذا تبيين بعض ما في ذلك اليوم من الأهوال فلك أن تجعل { يوم تبدل الأرض } متعلقاً بقوله { سريع الحساب } قُدّم عليه للاهتمام بوصف ما يحصل فيه، فجاء على هذا النظم ليحصل من التشويق إلى وصف هذا اليوم لما فيه من التهويل. ولك أن تجعله متعلقاً بفعل محذوف تقديره اذكُرْ يوم تبدل الأرض، وتجعل جملة { إن الله سريع الحساب } على هذا تذييلاً. ولك أن تجعله متعلقاً بفعل محذوف دل عليه قوله { ليجزي الله كل نفس ما كسبت }. والتقدير يجزي اللّهُ كلّ نفس بما كسبت يومَ تبدل الأرض.. الخ. وجملة { إن الله سريع الحساب } تذييل أيضاً. والتبديل التغيير في شيء إما بتغيير صفاته، كقوله تعالىفأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات } سورة الفرقان 70، وقولك بدلتُ الحَلقة خاتماً وإما بتغيير ذاته وإزالتها بذات أخرى، كقوله تعالىبدلناهم جلوداً غيرها } سورة النساء 56، وقولهوبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط } سورة سبأ 16. وتبديل الأرض والسماوات يوم القيامة إما بتغيير الأوصاف التي كانت لها وإبطال النُظم المعروفة فيها في الحياة الدنيا، وإما بإزالتها ووجدان أرض وسماوات أخرى في العالم الأخروي. وحاصل المعنى استبدال العالم المعهود بعالم جديد. ومعنى { وبرزوا لله الواحد القهار } مثل ما ذكر في قولهوبرزوا لله جميعاً } سورة إبراهيم 21. والوصف بـ { الواحد القهار } للرد على المشركين الذين أثبتوا له شركاء وزعموا أنهم يدافعون عن أتباعهم. وضمير { برزوا } عائد إلى معلوم من السياق، أي وبرز الناس أو برز المشركون. والتقرين وضع اثنين في قرن، أي حبل. والأصفاد جمع صِفاد بوزن كتاب، وهو القيد والغل. والسرابيل جمع سِربال وهو القميص. وجملة { سرابيلهم من قطران } حال من { المجرمين }. والقطران دهن من تركيب كيمياوي قديم عند البشر يصنعونه من إغلاء شَجر الأرز وشجر السرو وشجر الأبهل ــــ بضم الهمزة والهاء وبينهما موحدة ساكنة ــــ وهو شجر من فصيلة العرعر. ومن شجر العرعر بأن تقطع الأخشاب وتجعل في قبة مبنية على بلاط سَوِي وفي القبة قناة إلى خارج. وتُوقد النار حول تلك الأخشاب فتصعد الأبخرة منها ويسري ماء البخار في القناة فتصب في إناء آخر موضوع تحت القناة فيتجمع منهماء أسود يعلوه زبد خاثر أسود. فالماء يعرف بالسائل والزَبَد يعرف بالبرقي. ويتخذ للتداوي من الجرب للإبل ولغير ذلك مما هو موصوف في كتب الطب وعلم الأَقْرَبَاذين. وجعلت سرابيلهم من قطران لأنه شديد الحرارة فيؤلم الجِلدَ الواقعَ هو عليه، فهو لباسهم قبل دخول النار ابتداء بالعذاب حتى يقعوا في النار ــــ. وجملة { إن الله سريع الحساب } مستأنفة، إما لتحقيق أن ذلك واقع كقولهإنما توعدون لصادق وإن الدين لواقع } سورة الذاريات 5، 6، وإما استئناف ابتدائي. وأخرت إلى آخر الكلام لتقديم { يوم تبدل الأرض } إذا قُدر معمولاً لها كما ذكرناه آنفاً.