الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ قُل لِّعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ يُقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ وَيُنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلاَلٌ }

استئناف نشأ عن ذكر حال الفريق الذي حقت عليه الكلمة الخبيثة بذكر حال مقابله، وهو الفريق الذي حقت عليه الكلمة الطيبة. فلما ابتدىء بالفريق الأول لقصد الموعظة والتخلي ثُنّي بالفريق الثاني على طريقة الاعتراض بين أغراض الكلام كما سيأتي في الآية عقبها. ونظيره قوله تعالى في سورة الإسراءوقالوا أإذا كنا عظاماً ورفاتاً أإنا لمبعوثون خلقاً جديداً قل كونوا حجارة } سورة الإسراء 49-50 إلى أن قالوقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن } سورة الإسراء 53. ولما كانوا متحلين بالكمال صِيغَ الحديث عنهم بعنوان الوصف بالإيمان، وبصيغة الأمر بما هم فيه من صلاة وإنفاق لقصد الدوام على ذلك، فحصلت بذلك مناسبة وقع هذه الآية بعد التي قبلها لمناسبة تضاد الحالين. ولما كان المؤمنون يقيمون الصلاة من قبل وينفقون من قبل تعين أن المراد الاستزادة من ذلك، ولذلك اختير المضارع مع تقدير لام الأمر دون صيغة فعل الأمر لأن المضارع دال على التجدد، فهو مع لام الأمر يلاقي حال المتلبس بالفعل الذي يؤمر به بخلاف صيغة افعل فإن أصلها طلب إيجاد الفعل المأمور به من لم يكن ملتبساً به، فأصل { يقيموا الصلاة } ليقيموا، فحذفت لام الأمر تخفيفاً. وهذه هي نكتة ورود مثل هذا التركيب في مواضع وروده، كما في هذه الآية وفي قولهوقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن } في سورة الإسراء 53، أي قل لهم ليقيموا وليقولوا، فحكي بالمعنى. وعندي أن منه قوله تعالىذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون } في سورة الحجر 3، أي ذرهم ليأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل. فهو أمر مستعمل في الإملاء والتهديد، ولذلك نوقن بأن الأفعال هذه معمولة للام أمر محذوفة. وهذا قول الكسائي إذا وقع الفعل المجزوم بلام الأمر محذوفة بعد تقدم فعل { قل } ، كما في «مغني اللبيب» ووافقه ابن مالك في «شرح الكافية». وقال بعضهم جزم الفعل المضارع في جواب الأمر بـــ { قل } على تقدير فعل محذوف هو المقول دل عليه ما بعده. والتقدير قل لعبادي أقيموا يقيموا وَأنفقوا ينفقوا. وقال الكسائي وابن مالك إن ذلك خاص بما يقع بعد الأمر بالقول كما في هذه الآية، وفاتهم نحو آية { ذرهم يأكلوا ويتمتعوا }. وزيادة { مما رزقناهم } للتذكير بالنعمة تحريضاً على الإنفاق ليكون شكراً للنعمة. و { سراً وعلانية } حالان من ضمير { ينفقوا } ، وهما مصدران. وقد تقدم عند قوله تعالىسراً وعلانية } في سورة البقرة 274. والمقصود تعميم الأحوال في طلب الإنفاق لكيلا يظنوا أن الإعلان يجر إلى الرياء كما كان حال الجاهلية، أو أن الإنفاق سراً يفضي إلى إخفاء الغني نعمة الله فيجر إلى كفران النعمة، فربما توخى المرء أحد الحالين فأفضى إلى ترك الإنفاق في الحال الآخر فتعطل نفع كثير وثواب جزيل، فبين الله للناس أن الإنفاق بِرّ لا يكدره ما يحف به من الأحوال، وإنما الأعمال بالنيات.

السابقالتالي
2