الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَقَالَ ٱلشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ ٱلأَمْرُ إِنَّ ٱللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ ٱلْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَٱسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُوۤاْ أَنفُسَكُمْ مَّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ ٱلظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }

أفضت مجادلة الضعفاء وسادتهم في تغريرهم بالضلالة إلى نطق مصدر الضلالة وهو الشيطان إما لأنهم بعد أن اعتذر إليهم كبراؤهم بالحرمان من الهدى علموا أن سبب إضلالهم هو الشيطان لأن نفي الاهتداء يرادفه الضلال، وإما لأن المستكبرين انتقلوا من الاعتذار للضعفاء إلى ملامة الشيطان الموسوس لهم ما أوجب ضلالهم، وكل ذلك بعلم يقع في نفوسهم كالوجدان. على أن قوله { فلا تلوموني } يظهر منه أنه توجه إليه ملام صريح، ويحتمل أنه توقّعه فدفعه قبل وقوعه وأنه يتوجه إليه بطريقة التعريض، فجملة { وقال الشيطان } عطف على جملة { فقال الضعفاء }. والمقصود من وصف هذا الموقف إثارة بغض الشيطان في نفوس أهل الكفر ليأخذوا حذرهم بدفاع وسواسه لأن هذا الخطاب الذي يخاطبهم به الشيطان مليء بإضماره الشر لا لهم فيما وعدهم في الدنيا مما شأنه أن يستفز غضبهم من كيده لهم وسخريته بهم، فيورثهم ذلك كراهية له وسوء ظنهم بما يتوقعون إتيانه إليهم من قِبَله. وذلك أصل عظيم في الموعظة والتربية. ومعنى { قضي الأمر } تُمّم الشأن، أي إذن الله وحكمه. ومعنى إتمامه ظهوره، وهو أمره تعالى بتمييز أهل الضلالة وأهل الهداية، قال تعالىوامتازوا اليوم أيها المجرمون } سورة يس 59، وذلك بتوجيه كل فريق إلى مقره الذي استحقه بعمله، فيتصدى الشيطان للتخفيف عن الملام عن نفسه بتشريك الذين أضلهم معه في تبعة ضلالهم، وقد أنطقه الله بذلك لإعلان الحق، وشهادة عليهم بأن لهم كسباً في اختيار الانصياع إلى دعوة الضلال دون دعوة الحق. فهذا شبيه شهادة ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون وقولها لهم { أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء } إظهاراً للحقيقة وتسجيلاً على أهل الضلالة وقمعاً لسفسطتهم. وأخبر الله بها الناس استقصاء في الإبلاغ ليحيط الناس علماً بكل ما سيحل بهم، وإيقاظاً لهم ليتأملوا الحقائق الخفية فتصبح بينة واضحة. فقول الشيطان { فلا تلوموني ولوموا أنفسكم } إبطال لإفراده باللوم أو لابتداء توجيه الملام إليه في حين أنهم أجدر باللوم أو بابتداء توجيهه. وأما وقع كلام الشيطان من نفوس الذين خاطبهم فهو موقع الحسرة من نفوسهم زيادة في عذاب النفس. وإضافة { وعد } إلى { الحق } من إضافة الموصوف إلى الصفة مبالغة في الاتصاف، أي الوعد الحق الذي لانقض له. والحق هنا بمعنى الصدق والوفاء بالموعود به. وضده الإخلاف، ولذلك قال { ووعدتكم فأخلفتكم } سورة إبراهيم 22، أي كذبتُ موعدي. وشمل وعد الحق جميع ما وعدهم الله بالقرآن على لسان رسوله عليه الصلاة والسلام. وشمل الخُلْف جميعَ ما كان يعدهم الشيطان على لسان أوليائه وما يعدهم إلا غرورا. والسلطان اسم مصدر تسلط عليه، أي غلبه وقهره، أي لم أكن مجبراً لكم على اتباعي فيما أمرتكم.

السابقالتالي
2 3