الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱسْتَفْتَحُواْ وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ } * { مِّن وَرَآئِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَىٰ مِن مَّآءٍ صَدِيدٍ } * { يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ ٱلْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِن وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ }

جملة { واستفتحوا } يجوز أن تكون معطوفة على جملة { فأوحى إليهم ربهم } ، أو معترضة بين جملة { ولنسكننكم الأرض من بعدهم } وبين جملة { وخاب كل جبار عنيد }. والمعنى أنهم استعجلوا النصر. وضمير { استفتحوا } عائد إلى الرسل، ويكون جملة { وخاب كل جبار عنيد } عطفاً على جملة { فأوحى إليهم ربهم } الخ، أي فوعدهم الله النصر وخاب الذين كفروا، أي لم يتحقق توعدهم الرسل بقولهم { لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا }. ومقتضى الظاهر أن يقال وخاب الذين كفروا، فعدل عنه إلى { كل جبار عنيد } للتنبيه على أن الذين كفروا كانوا جبابرة عنداء وأن كل جبار عنيد يخيب. ويجوز أن تكون جملة { استفتحوا } عطفاً على جملة { وقال الذين كفروا لرسلهم } ويكون ضمير { استفتحوا } عائداً على الذين { كفروا } ، أي وطلبوا النصر على رسلهم فخابوا في ذلك. ولكون في قوله { وخاب كل جبار عنيد } إظهار في مقام الإضمار عدل عن أن يقال وخابوا، إلى قوله { كل جبار عنيد } لمثل الوجه الذي ذكر آنفاً. والاستفتاح طلب الفتح وهو النصر، قال تعالىإن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح } سورة الأنفال 19. والجبار المتعاظم الشديد التكبر. والعنيد المعاند للحق. وتقدما في قولهواتبعوا أمر كل جبار عنيد } في سورة هود 59. والمراد بهم المشركون المتعاظمون، فوصف { جبار } خلُق نفساني، ووصف { عنيد } من أثر وصف { جبار } لأن العنيد المكابر المعارض للحجة. وبين { خاف وعيد } و { خاب كل جبار عنيد } جناس مصحف. وقوله { من ورائه جهنم } صفة لــــ { جبار عنيد } ، أي خاب الجبّار العنيد في الدنيا وليس ذلك حظه من العقاب بل وراءه عقاب الآخرة. والوراء مستعمل في معنى ما ينتظره ويحل به من بعد، فاستعير لذلك بجامع الغفلة عن الحصول كالشيء الذي يكون من وراء المرء لا يشعر به لأنه لا يراه، كقوله تعالىوكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصباً } سورة الكهف 79، أي وهم غافلون عنه ولو ظفر بهم لافتك سفينتهم، وقول هدبة بن خشرم
عسى الكرب الذي أمسيت فيه يكون وراءَه فَرج قريب   
وأما إطلاق الوراء على معنى { من بَعْد } فاستعمال آخر قريب من هذا وليس عينه. والمعنى أن جهنم تنتظره، أي فهو صائر إليها بعد موته. والصديد المُهلة، أي مثل الماء يسيل من الدمل ونحوه، وجعل الصديد ماء على التشبيه البليغ في الإسقاء، لأن شأن الماء أن يُسْقى. والمعنى ويسقى صديداً عوض الماء إن طلب الإسقاء، ولذلك جعل { صديد } عطفَ بيان لــــ { ماء }. وهذا من وجوه التشبيه البليغ. وعطف جملة { يسقى } على جملة { من ورائه جهنم } لأن السقي من الصديد شيء زائد على نار جهنم. والتجرع تكلف الجَرْع، والجرع بلع الماء. ومعنى { يُسيغه } يفعل سوغه في حلقه. والسوغ انحدار الشراب في الحلق بدون غصة، وذلك إذا كان الشراب غير كريه الطعم ولا الريح، يقال ساغ الشراب، وشراب سائغ.

السابقالتالي
2