الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يَمُنُّ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَآ أَن نَّأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَعلَى ٱللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُؤْمِنُونَ } * { وَمَا لَنَآ أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى ٱللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَىٰ مَآ آذَيْتُمُونَا وَعَلَى ٱللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُتَوَكِّلُونَ }

قول الرسل { إن نحن إلا بشر مثلكم } جواب بطريق القول بالموجَب في علم آداب البحث، وهو تسليم الدليل مع بقاء النزاع ببيان محل الاستدلال غيرُ تام الإنتاج، وفيه إطماع في الموافقة. ثم كرّ على استدلالهم المقصود بالإبطال بتبيين خطئهم. ونظيره قوله تعالىيقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون } سورة المنافقون 8. وهذا النوع من القوادح في علم الجدل شديد الوقع على المناظر، فليس قول الرسل { إن نحن إلا بشر مثلكم } تقريراً للدليل ولكنه تمهيد لبيان غلط المستدل في الاستنتاج من دليله. ومحل البيان هوالاستدراك في قولهولكن الله يَمنّ على من يشاء من عباده } سورة إبراهيم 11. والمعنى أن المماثلة في البشرية لا تقتضي المماثلة في زائد عليها فالبشر كلهم عباد الله والله يمُنّ على من يشاء من عباده بنِعَم لم يعطها غيرهم. فالاستدراك رفع لما توهموه من كون المماثلة في البشرية مقتضى الاستواء في كل خصلة. وأورد الشيخ محمّد بن عرفة في التفسير وجهاً للتفرقة بين هذه الآية إذ زيد فيها كلمة { لهم } في قولهقالت لهم رسلهم } سورة إبراهيم 10 وبين الآية التي قبلها إذ قال فيها { قالت رسلهم } بوجهين أحدهما أن هذه المقالة خاصة بالمكذّبين من قومهم يقولونها لغيرهم إذ هو جواب عن كلام صدر منهم والمقالة الأولى يقولونها لهم ولغيرهم، أي للمصدقين والمكذبين. وثانيهما أن وجود الله أمر نظري، فكان كلام الرسل في شأنه خطاباً لعموم قومهم، وأما بعْثة الرسل فهي أمر ضروري ظاهر لا يحتاج إلى نظر، فكأنه قال ما قَالوا هذا إلا للمكذبين لغباوتهم وجهلهم لا لغيرهم. وأجاب الأبي أن { أفي الله شك } خطاب لمن عاند في أمر ضروري، فكأنّ المجيب عن ذلك يجيب به من حيث الجملة ولا يُقبل بالجواب على المخاطب لمعاندته فيجيب وهو مُعْرض عنه بخلاف قولهم { إن نحن إلا بشر مثلكم } فإنه تقرير لمقالتهم فهم يُقبلون عليهم بالجواب لأنهم لم يبطلوا كلامهم بالإطلاق بل يقررونه ويزيدون فيه اهــــ. والحاصل أن زيادة { لهم } تؤذن بالدلالة على توجه الرسل إلى قومهم بالجواب لما في الجواب عن كلامهم من الدقة المحتاجة إلى الاهتمام بالجواب بالإقبال عليهم إذ اللامُ الداخلة بعد فعل القول في نحو أقول لك، لام تعليل، أي أقول قولي لأجلك. ثم عطفوا على ذلك تبيين أن ما سأله القوم من الإتيان بسلطان مبين ليس ذلك إليهم ولكنه بمشيئة الله وليس الله بمكرَه على إجابة من يتحداه. وجملة { وعلى الله فليتوكل المؤمنون } أمر لمَن آمن من قومهم بالتوكل على الله، وقصدوا به أنفسهم قصداً أوليّاً لأنهم أول المؤمنين بقرينة قولهم { وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا } إلى آخره.

السابقالتالي
2 3