الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ٱلْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ ٱلأَحْزَابِ مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَآ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ ٱللَّهَ وَلاۤ أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ }

{ وَٱلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ٱلْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ ٱلأَحْزَابِ مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ } الواو للاستئناف. وهذا استئناف ابتدائي انتقل به إلى فضل لبعض أهل الكتاب في حسن تلقيهم للقرآن بعد الفراغ من ذكر أحوال المشركين من قولهكذلك أرسلناك في أمة } سورة الرعد 30 الخ، ولذلك جاءت على أسلوبها في التعقيب بجملة { قل إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به } سورة الرعد 36. والمناسبة هي أن الذين أرسل إليهم بالقرآن انقسموا في التصديق بالقرآن فِرقاً ففريق آمنوا بالله وهم المؤمنون، وفريق كفروا به وهم مصداق قولهوهم يكفرون بالرحمٰن } سورة الرعد 30، كما تقدم أنه عائد إلى المشركين المفهومين من المقام كما هو مصطلح القرآن. وهذا فريق آخر أيضاً أهل الكتاب وهو منقسم أيضاً في تلقي القرآن فرقتين فالفريق الأول صدّقوا بالقرآن وفرحوا به وهم الذين ذُكروا في قوله تعالىوإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق } في سورة العقود 83، وكلهم من النصارى مثل ورقة بن نوفل وكذلك غيره ممن بلغهم القرآن أيام مُقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة قبل أن تبلغهم دعوة النبي فإن اليهود كانوا قد سُرُّوا بنزول القرآن مصدّقاً للتوراة، وكانوا يحسبون دعوة النبي صلى الله عليه وسلم مقصورة على العرب فكان اليهود يستظهرون بالقرآن على المشركين، قال تعالىوكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا } سورة البقرة 89. وكان النصارى يستظهرون به على اليهود وفريق لم يثبت لهم الفرحُ بالقرآن وهم معظم اليهود والنصارى البعداء عن مكة وما كفر الفريقان به إلا حين علموا أن دعوة الإسلام عامة. وبهذا التفسير تظهر بلاغة التعبير عنهم بـ { يفرحون } دون { يؤمنون }. وإنما سلكنا هذا الوجه بناءً على أن هذه السورة مكية كان نزولها قبل أن يُسلم عبد الله بن سلام وسَلْمان الفارسي وبعض نصارى نجران وبعض نصارى اليمن، فإن كانت السورة مدنية أو كان هذا من المدني فلا إشْكال. فالمراد بالذين آتيناهم الكتاب الذين أوتوه إيتاء كاملاً، وهو المجرد عن العصبية لما كانوا عليه وعن الحسد، فهو كقوله تعالىالذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به } سورة البقرة 121. فالأظهر أن المراد بالأحزاب أحزابُ الذين أوتوا الكتاب، كما جاء في قوله تعالىفاختلف الأحزاب من بينهم } في سورة مريم 37، أي ومن أحزابهم من ينكر بعض القرآن، فاللام عوض عن المضاف إليه. ولعل هؤلاء هم خبثاؤهم ودُهاتهم الذين توسموا أن القرآن يبطل شرائعهم فأنكروا بعضه، وهو ما فيه من الإيماء إلى ذلك من إبطال أصول عقائدهم مثل عُبودية عيسى عليه السلام بالنسبة للنصارى، ونبوءته بالنسبة لليهود. وفي التعبير عنهم بالأحزاب إيماء إلى أن هؤلاء هم المتحزبون المتصلبون لقومهم ولما كانوا عليه.

السابقالتالي
2