الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ ٱلْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ ٱلأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ ٱلْمَوْتَىٰ بَل للَّهِ ٱلأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَن لَّوْ يَشَآءُ ٱللَّهُ لَهَدَى ٱلنَّاسَ جَمِيعاً وَلاَ يَزَالُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِّن دَارِهِمْ حَتَّىٰ يَأْتِيَ وَعْدُ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُخْلِفُ ٱلْمِيعَادَ }

{ وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ ٱلْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ ٱلأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ ٱلْمَوْتَىٰ بَل للَّهِ ٱلأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَن لَّوْ يَشَآءُ ٱللَّهُ لَهَدَى ٱلنَّاسَ جَمِيعاً }. يجوز أن تكون عطفاً على جملة { كذلك أرسلناك في أمة } لأن المقصود من الجملة المعطوف عليها أن رسالته لم تكن إلا مثل رسالة غيره من الرسل ــــ عليهم السّلام ــــ كما أشار إليه صفة { أمة قد خلت من قبلها أمم } ، فتكون جملة { ولو أن قرآناً } تتمة للجواب عن قولهم { لولا أنزل عليه آية من ربه }. ويجوز أن تكون معترضة بين جملة { قل هو ربي } وبين جملةأفمن هو قائم على كل نفس } سورة الرعد 33 كما سيأتي هنالك. ويجوز أن تكون محكية بالقول عطفاً على جملة { هو ربي لا إلٰه إلا هو }. والمعنى لو أن كتاباً من الكتب السالفة اشتمل على أكثر من الهداية فكانت مصادر لإيجاد العجائب لكان هذا القرآن كذلك ولكن لم يكن قرآنٌ كذلك، فهذا القرآن لا يتطلب منه الاشتمال على ذلك إذ ليس ذلك من سُنن الكتب الإلهية. وجواب { لو } محذوف لدلالة المقام عليه. وحذفُ جواب { لو } كثير في القرآن كقولهولو ترى إذ وقفوا على النار } سورة الأنعام 27 وقولهولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤوسهم } سورة السجدة 12. ويفيد ذلك معنى تعريضياً بالنداء عليهم بنهاية ضلالتهم، إذ لم يهتدوا بهدي القرآن ودلائله والحال لو أن قرآناً أمَر الجبال أن تسير والأرض أن تتقطع والموتى أن تتكلم لكان هذا القرآن بالغاً ذلك ولكن ذلك ليس من شأن الكتب، فيكون على حدّ قول أبَيّ بن سُلْمَى من الحماسة
ولو طَارَ ذو حافر قَبلها لطارتْ ولكنه لم يَطِر   
ووجه تخصيص هذه الأشياء الثلاثة من بين الخوارق المفروضة ما رواه الواحدي والطبري عن ابن عباس أن كفار قريش، أبا جهل وابن أبي أميّة وغيرهما جلسوا خلف الكعبة ثم أرسلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا لو وسّعْت لنا جبال مكّة فسيرتها حتى تتسع أرضنا فنحتَرثهما فإنها ضيقة، أو قرّب إلينا الشام فإنا نتجر إليها، أو أخرج قصَياً نكلمه. وقد يؤيد هذه الرواية أنه تَكرر فرض تكليم الموتى بقوله في سورة الأنعامولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلّمهم الموتى } سورة الأنعام 111، فكان في ذكر هذه الأشياء إشارةٌ إلى تهكمهم. وعلى هذا يكون { قطعت به الأرض } قطعت مسافات الأسفار كقوله تعالىلقد تقطع بينكم } سورة الأنعام 94. وجملة { بل لله الأمر جميعاً } عطف على { ولو أن قرآناً } بحرف الإضراب، أي ليس ذلك من شأن الكتب بل لله أمر كل محدَث فهو الذي أنزل الكتاب وهو الذي يخلق العجائب إن شاء، وليس ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولا عند سؤالكم، فأمر الله نبيئه بأن يقول هذا الكلام إجراء لكلامهم على خلاف مرادهم على طريقة الأسلوب الحكيم، لأنهم ما أرادوا بما قالوه إلا التهكم، فحمل كلامهم على خلاف مرادهم تنبيهاً على أن الأولى بهم أن ينظروا هل كان في الكتب السابقة قُرآن يتأتى به مثل ما سألوه.

السابقالتالي
2 3