الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِيۤ أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَآ أُمَمٌ لِّتَتْلُوَاْ عَلَيْهِمُ ٱلَّذِيۤ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِٱلرَّحْمَـٰنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ }

هذا الجواب عن قولهم { لولا أنزل عليه آية من ربه } لأن الجواب السابق بقوله { قل إن الله يضل من يشاء } جواب بالإعراض عن جهالتهم والتعجب من ضلالهم وما هنا هو الجواب الرادُّ لقولهم. فيجوز جعل هذه الجملة من مقول القول، ويجوز جعله مقطوعة عن جملة { قل إن الله يضل من يشاء }. وأيّا ما كان فهي بمنزلة البيان لجملة القول كلها، أو البيان لجملة المقول وهو التعجب. وفي افتتاحها بقوله { كذلك } الذي هو اسم إشارة تأكيد للمشار إليه وهو التعجب من ضلالتهم إذ عموا عن صفة الرسالة. والمشارُ إليه الإرسال المأخوذ من فعل { أرسلناك } ، أي مثل الإرسال البين أرسلناكَ، فالمشبه به عين المشبّه، إشارة إلى أنه لوضوحه لا يبين ما وضح من نفسه. وقد تقدم نظيره في قوله تعالىوكذلك جعلناكم أمة وسطا } في سورة البقرة 143. ولما كان الإرسال قد علق بقوله { في أمة قد خلت من قبلها أمم لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك } صارت الإشارة أيضاً متحملة لمعنى إرسال الرسل من قبله إلى أمم يقتضي مرسَلين، أي ما كانت رسالتك إلاّ مثل رسالة الرسل من قبلك. كقولهقل ما كنت بدعا من الرسل } سورة الأحقاف 9 وقولهوما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق } سورة الفرقان 20 لإبطال توهم المشركين أن النبي لما لم يأتهم بما سألوه فهو غير مرسل من الله. وفي هذا الاستدلال تمهيد لقولهولو أن قرآناً سيرت به الجبال } سورة الرعد 31 الآيات. ولذلك أردفت الجملة بقوله { لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك }. والأمّة هي أمة الدعوة { فمنهم من آمن ومنهم من كفر }. وتقدم معنى { قد خلت من قبلها أمم } في سورة آل عمران عند قولهقد خلت من قبلكم سُنن } سورة آل عمران 137. ويتضمن قوله { قد خلت من قبلها أمم } التعريض بالوعيد بمثل مصير الأمم الخالية التي كذبت رسلها. وتضمن لام التعليل في قوله { لتتلو عليهم } أن الإرسال لأجل الإرشاد والهداية بما أمر الله لا لأجل الانتصاب لخوارق العادات. والتلاوة القراءة. فالمقصود لتقرأ عليهم القرآن، كقولهوأن أتلو القرآن فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه } سورة النمل 92 الآية. وفيه إيماء إلى أن القرآن هو معجزته لأنه ذكره في مقابلة إرسال الرسل الأولين ومقابلة قولهويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه } سورة الرعد 7. وقد جاء ذلك صريحاً في قولهأو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم } سورة العنكبوت 51. وقال النبي ما من الأنبياء نبي إلا أوتي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيتُ وحياً أوحاه الله إلي. وجملة { وهم يكفرون بالرحمٰن } عطف على جملة { كذلك أرسلناك } ، أي أرسلناك بأوضح الهداية وهم مستمرون على الكفر لم تدخل الهداية قلوبهم، فالضمير عائد إلى المشركين المفهومين من المقام لا إلى { أمة } لأن الأمة منها مؤمنون.

السابقالتالي
2