الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَهُوَ ٱلَّذِي مَدَّ ٱلأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ وَأَنْهَاراً وَمِن كُلِّ ٱلثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ ٱثْنَيْنِ يُغْشِى ٱلَّيلَ ٱلنَّهَارَ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ }

{ وَهُوَ ٱلَّذِى مَدَّ ٱلأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ وَأَنْهَـٰراً وَمِن كُلِّ ٱلثَّمَرَٰتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ ٱثْنَيْنِ } عطف على جملة { الله الذي رفع السماوات } فبين الجملتين شبه التضاد. اشتملت الأولى على ذكر العوالم العلوية وأحوالها، واشتملت الثانية على ذكر العوالم السفلية. والمعنى أنه خالق جميع العوالم وأعراضها. والمد البسط والسعة، ومنه ظل مديد، ومنه مد البحر وجزره، ومد يده إذا بسطها. والمعنى خلق الأرض ممدودة متسعة للسير والزرع لأنه لو خلقها أسنمة من حجر أو جبالاً شاهقة متلاصقة لما تيسّر للأحياء التي عليها الانتفاع بها والسير من مكان إلى آخر في طلب الرزق وغيره. وليس المراد أنها كانت غير ممدودة فمدّها بل هو كقوله { الله الذي رفع السماوات } ، فهذه خلقة دالة على القدرة وعلى اللطف بعباده فهي آية ومنة. والرواسي جمع رَاسٍ، وهو الثابت المستقر. أي جبالاً رواسي. وقد حذف موصوفه لظهوره فهو كقوله { وله الجواري } ، أي السفن الجارية. وسيأتي في قولهوألقى في الأرض رواسي } في سورة النحل 15 بأبسط مما هنا. وجيء في جمع راسٍ بوزن فواعل لأن الموصوف به غير عاقل، ووزن فواعل يطرد فيما مفرده صفة لغير عاقل مثل صاهل وبازل. والاستدلال بخلق الجبال على عظيم القدرة لما في خلقها من العظمة المشاهدة بخلاف خلقة المعادن والتراب فهي خفية، كما قال تعالىوإلى الجبال كيف نصبت } الغاشية 19. والأنهار جمع نهر، وهو الوادي العظيم. وتقدم في سورة البقرةإن الله مبتليكم بنهر } 249. وقوله { ومن كل الثمرات } عطف على { أنهاراً } فهو معمول لــــ { جَعل فيها رواسِيَ }. ودخول { مِن } على { كلّ } جرى على الاستعمال العربي في ذكر أجناس غير العاقل كقوله { وبث فيها من كل دابة }. و { مِن } هذه تُحمل على التبعيض لأن حقائق الأجناس لا تنحصر والموجود منها ما هو إلا بعض جزئيات الماهية لأن منها جزئيات انقضت ومنها جزئيات ستوجد. والمراد بــــ { الثمرات } هيَ وأشجارُها. وإنما ذكرت { الثمرات } لأنها موقع منة مع العبرة كقولهفأخرجنا به من كل الثمرات } سورة الأعراف 57. فينبغي الوقف على { ومن كل الثمرات } ، وبذلك انتهى تعداد المخلوقات المتصلة بالأرض. وهذا أحسن تفسيراً. ويعضده نظيره في قوله تعالىينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون } في سورة النحل 11. وقيل إن قوله { ومن كل الثمرات } ابتداء كلام. وتتعلق { من كل الثمرات } بــــ { جعل فيها زوجين اثنين } ، وبهذا فسر أكثر المفسرين. ويبعده أنه لا نكتة في تقديم الجار والمجرور على عامله على ذلك التقدير، لأن جميع المذكور محل اهتمام فلا خصوصية للثمرات هنا، ولأن الثمرات لا يتحقق فيها وجود أزواج ولا كون الزوجين اثنين. وأيضاً فيه فوات المنة بخلق الحيوان وتناسله مع أن منه معظم نفعهم ومعاشهم.

السابقالتالي
2