الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ ٱللَّهُ ٱلَّذِي رَفَعَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ وَسَخَّرَ ٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّـى يُدَبِّرُ ٱلأَمْرَ يُفَصِّلُ ٱلآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَآءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ }

{ ٱللَّهُ ٱلَّذِى رَفَعَ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ وَسَخَّرَ ٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِى لأَجَلٍ مُّسَمًّـى } استئناف ابتدائي هو ابتداء المقصود من السورة وما قبله بمنزلة الديباجة من الخطبة، ولذا تجد الكلام في هذا الغرض قد طال واطّرد. ومناسبَة هذا الاستئناف لقوله { ولكن أكثر الناس لا يؤمنون } لأن أصل كفرهم بالقرآن ناشىء عن تمسكهم بالكفر وعن تطبعهم بالاستكبار والإعراض عن دعوة الحق. والافتتاح باسم الجلالة دون الضمير الذي يعود إلىربك } الرعد 1 لأنه معيّن به لا يشتبه غيره من آلهتهم ليكون الخبر المقصود جارياً على معيّن لا يحتمل غيره إبلاغاً في قطع شائبة الإشراك. و { الذي رفع } هو الخبر. وجُعل اسماً موصولاً لكون الصلة معلومة الدلالة على أن من تثبت له هو المتوحد بالربوبية إذ لا يستطيع مثل تلك الصلة غير المتوحد ولأنه مسلم له ذلكولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله } لقمان 25. والسماوات تقدمت مراراً، وهي الكواكب السيارة وطبقات الجو التي تسبح فيها. ورفعها خلقها مرتفعة، كما يقال وَسّعْ طوقَ الجُبة وضيّقْ كمها، لا تريد وسعه بعد أن كان ضيقاً ولا ضيقه بعد أن كان واسعاً وإنما يراد اجْعَلْه واسعاً واجعله ضيقاً، فليس المراد أنه رفعها بعد أن كانت منخفضة. والعَمَد جمع عماد مثل إهاب وأهَب، والعماد ما تقام عليه القبة والبيت. وجملة { ترونها } في موضع الحال من { السماوات } ، أي لا شبهة في كونها بغير عمد. والقول في معنى { ثم استوى على العرش } تقدم في سورة الأعراف وفي سورة يونس. وكذلك الكلام على { سخر الشمس والقمر } في قوله تعالىوالشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره } في سورة الأعراف 54. والجري السير السريع. وسير الشمس والقمر والنجوم في مسافات شاسعة، فهو أسرع التنقلات في بابها وذلك سيرها في مداراتها. واللام للعلة. والأجل هو المدة التي قدرها الله لدوام سيرها، وهي مدة بقاء النظام الشمسي الذي إذا اختل انتثرت العوالم وقامت القيامة. والمسمّى أصله المعروف باسمه، وهو هنا كناية عن المعيّن المحدّد إذ التسمية تستلزم التعيين والتمييز عن الاختلاط. { يُدَبَّرُ ٱلأَمْرَ يُفَصِّلُ ٱلآيَـٰتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَآءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ } جملة { يدبر الأمر } في موضع الحال من اسم الجلالة. وجملة { يفصل الآيات } حال ثانية تُرك عطفها على التي قبلها لتكون على أسلوب التعداد والتوقيف وذلك اهتمام باستقلالها. وتقدم القول على { يدبر الأمر } عند قولهومن يدبر الأمر } في سورة يونس 3. وتفصيل الآيات تقدم عند قولهأحكمت آياته ثم فصلت } في طالعة سورة هود 1. ووجه الجمع بينهما هنا أن تدبير الأمر يشمل تقدير الخلق الأول والثاني فهو إشارة إلى التصرف بالتكوين للعقول والعوالم، وتفصيل الآيات مشير إلى التصرف بإقامة الأدلة والبراهين، وشأن مجموع الأمرين أن يفيد اهتداء الناس إلى اليقين بأن بعد هذه الحياة حياة أخرى، لأن النظر بالعقل في المصنوعات وتدبيرها يهدي إلى ذلك، وتفصيلَ الآيات والأدلة ينبه العقول ويعينها على ذلك الاهتداءِ ويقرّبه.

السابقالتالي
2