الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ قُلْ مَن رَّبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ قُلِ ٱللَّهُ قُلْ أَفَٱتَّخَذْتُمْ مِّن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ لاَ يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً قُلْ هَلْ يَسْتَوِي ٱلأَعْمَىٰ وَٱلْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي ٱلظُّلُمَاتُ وَٱلنُّورُ أَمْ جَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ ٱلْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ ٱللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ ٱلْوَاحِدُ ٱلْقَهَّارُ }

{ قُلْ مَن رَّبُّ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ قُلِ ٱللَّهُ قُلْ أَفَٱتَّخَذْتُمْ مِّن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ لاَ يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا } لما نهضت الأدلة الصريحة بمظاهر الموجودات المتنوعة على انفراده بالإلهية من قولهالله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها } سورة الرعد 2 وقولهوهو الذي مدّ الأرض } سورة الرعد 3 وقولهالله يعلم ما تحمل كل أنثى } سورة الرعد 8 وقولههو الذي يريكم البرق } سورة الرعد 12 الآيات، وبما فيها من دلالة رمزية دقيقة من قولهله دعوة الحق } سورة الرعد 14 وقولهولله يسجد من في السماوات } سورة الرعد 15 إلى آخرها لا جرم تهيّأ المقام لتقرير المشركين تقريراً لا يجدون معه عن الإقرار مندوحة، ثم لتقريعهم على الإشراك تقريعاً لا يسعهم إلاّ تجرّع مرارته، لذلك استؤنف الكلام وافتتح بالأمر بالقول تنويهاً بوضوح الحجة. ولكون الاستفهام غير حقيقي جاء جوابه من قِبَل المستفِهم. وهذا كثير في القرآن وهو من بديع أساليبه، كقولهعم يتساءلون عن النبأ العظيم } سورة النبأ 1 - 2. وتقدم عند قوله تعالىقل لمن ما في السماوات والأرض قل لله كتب على نفسه الرحمة } في سورة الأنعام 12. وإعادة فعل الأمر بالقول في { قل أفاتخذتم من دونه أولياء } الذي هو تفريع على الإقرار بأن الله ربّ السماوات والأرض لقصد الاهتمام بذلك التفريع لما فيه من الحجة الواضحة. فالاستفهام تقرير وتوبيخ وتسفيه لرأيهم بناءً على الإقرار المسلّم. وفيه استدلال آخر على عدم أهلية أصنامهم للإلهية فإن اتخاذهم أولياء من دونه معلوم لا يحتاج إلى الاستفهام عنه. وجملة { لا يملكون } صفة لــــ { أولياء } ، والمقصود منها تنبيه السامعين للنظر في تلك الصفة فإنهم إن تدبروا علموها وعلموا أن من كانت تلك صفته فليس بأهل لأن يعبد. ومعنى الملك هنا القدرة كما في قوله تعالىقل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضراً ولا نفعاً } في سورة العقود 76. وفي الحديث " أوَ أمْلِك لك أنْ نزع الله من قلبك الرحمة " وعطف الضر على النفع استقصاء في عجزهم لأن شأن الضرّ أنه أقرب للاستطاعة وأسهل. { قُلْ هَلْ يَسْتَوِى ٱلأَعْمَىٰ وَٱلْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِى ٱلظُّلُمَـٰتُ وَٱلنُّورُ } إعادة الأمر بالقول للاهتمام الخاصّ بهذا الكلام لأن ما قبله إبطال لاستحقاق آلهتهم العبادة. وهذا إظهار لمزية المؤمنين بالله على أهل الشرك، ذلك أن قوله { قل من رب السماوات والأرض قل الله } تضمّن أن الرسول ــــ عليه السلام ــــ دعا إلى إفراد الله بالربوبية وأن المخاطبين أثبتوا الربوبية للأصنام فكان حالهم وحاله كحال الأعمى والبصير وحال الظلمات والنور. ونفي التسوية بين الحالين يتضمن تشبيهاً بالحالين وهذا من صيغ التشبيه البليغ. و { أم } للإضراب الانتقالي في التشبيه. فهي لتشبيه آخر بمنزلة { أو } في قول لبيد

السابقالتالي
2