الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ وَقَالَ يَٰأَسَفَىٰ عَلَى يُوسُفَ وَٱبْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ ٱلْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ } * { قَالُواْ تَاللهِ تَفْتَؤُاْ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّىٰ تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ ٱلْهَالِكِينَ } * { قَالَ إِنَّمَآ أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى ٱللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } * { يٰبَنِيَّ ٱذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ ٱللَّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْقَوْمُ ٱلْكَافِرُونَ }

انتقال إلى حكاية حال يعقوب ــــ عليه السلام ــــ في انفراده عن أبنائه ومناجاته نفسه، فالتولي حاصل عقب المحاورة. و { تولى } انصرف، وهو انصراف غَضَب. ولمّا كان التولّي يقتضي الاختلاء بنفسه ذكر من أخواله تجدد أسفه على يوسف ــــ عليه السلام ــــ فقال { يا أسفىٰ على يوسف } والأسف أشد الحزن، أسِف كحزن. ونداء الأسف مجاز. نزّل الأسف منزلة من يعقل فيقول له احضر فهذا أوان حضورك، وأضاف الأسف إلى ضمير نفسه لأن هذا الأسف جزئي مختص به من بين جزئيات جنس الأسف. والألف عوض عن ياء المتكلم فإنها في النداء تبدل ألفاً. وإنما ذكر القرآن تحسّره على يوسف ــــ عليه السلام ــــ ولم يذكر تحسره على ابنيه الآخرين لأن ذلك التحسّر هو الذي يتعلق بهذه القصة فلا يقتضي ذكرُه أن يعقوب ــــ عليه السلام ــــ لم يتحسّر قط إلاّ على يوسف، مع أن الواو لا تفيد ترتيب الجمل المعطوفة بها. وكذلك عطف جملة { وابيضت عيناه من الحزن } إذ لم يكن ابيضاض عينيه إلا في مدة طويلة. فكل من التولّي والتحسر وابييضاض العينين من أحواله إلاّ أنها مختلفة الأزمان. وابييضاض العينين ضعُف البصر. وظاهره أنه تبدّل لون سوادهما من الهزال. ولذلك عبّر بــــ { وابيضت عيناه } دون عميت عيناه. و { من } في قوله { من الحزن } سببية. والحزن سبب البكاء الكثير الذي هو سبب ابييضاض العينين. وعندي أن ابييضاض العينين كناية عن عدم الإبصار كما قال الحارث بن حلزة
قبل ما اليوم بيّضَتْ بعيون النــــ ــــاس فيها تغيض وإباء   
وأن الحزن هو السبب لعدم الإبصار كما هو الظاهر. فإن توالي إحساس الحزن على الدماغ قد أفضى إلى تعطيل عمل عصب الإبصار على أن البكاء من الحزن أمر جبليّ فلا يستغرب صدوره من نبيء، أو أن التصبّر عند المصائب لم يكن من سنة الشريعة الإسرائيلية بل كان من سننهم إظهار الحَزن والجزع عند المصائب. وقد حكت التوراة بكاء بني إسرائيل على موسى ــــ عليه السلام ــــ أربعين يوماً، وحَكت تمزيق بعض الأنبياء ثيابهم من الجزع. وإنما التصبر في المصيبة كمال بلغت إليه الشريعة الإسلامية. والكظيم مبالغة للكاظم. والكَظم الإمساك النفساني، أي كاظم للحزن لا يظهره بين الناس، ويبكي في خلوته، أو هو فعيل بمعنى مفعول، أي محزون كقوله { وهو مكظوم }. وجملة { قالوا تالله } محاورة بنيه إياه عندما سمعوا قوله { يا أسفىٰ على يوسف } وقد قالها في خلوته فسمعوها. والتاء حرف قسم، وهي عوض عن واو القسم. قال في «الكشاف» في سورة الأنبياء «التاء فيها زيادة معنى وهو التعجب». وسلمه في «مغني اللبيب»، وفسره الطيبي بأن المقسم عليه بالتاء يكون نادر الوقوع لأن الشيء المتعجب منه لا يكثر وقوعه ومن ثم قل استعمال التاء إلا مع اسم الجلالة لأن القسم باسم الجلالة أقوى القسم.

السابقالتالي
2 3