الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَآءِ أَخِيهِ ثُمَّ ٱسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَآءِ أَخِيهِ كَذٰلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ ٱلْمَلِكِ إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَآءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ }

{ بدأ } أي أمر يوسف ــــ عليه السلام ــــ بالبداءة بأوعية بقية إخوته قبلَ وعاء أخيه الشقيق. وأوعية جمع وعاء، وهو الظرف،. مشتق من الوعي وهو الحفظ. والابتداء بأوعية غير أخيه لإبعاد أن يكون الذي يُوجد في وعائه هو المقصود من أول الأمر. وتأنيث ضمير { استخرجها } للسقاية. وهذا التأنيث في تمام الرشاقة إذ كانت الحقيقة أنها سقاية جعلت صواعاً. فهو كردّ العجز على الصدر. والقول في { كذلك كدنا ليوسف } كالقول فيكذلك نجزي الظالمين } سورة يوسف 75. والكَيْد فعل يتوصل بظاهره إلى مقصد خفي. والكيد هنا هو إلهام يوسف عليه السلام لهذه الحيلة المحكمة في وضع الصواع وتفتيشه وإلهام إخوته إلى ذلك الحكم المُصْمَت. وأسند الكيد إلى الله لأنه ملهمه فهو مسبّبه. وجعل الكيد لأجل يوسف عليه السلام لأنه لفائدته. وجملة { ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله } بيان للكيد باعتبار جميع ما فيه من وضع السقاية ومن حكم إخوته على أنفسهم بما يلائم مَرغوب يوسف ــــ عليه السلام ــــ من إبقاء أخيه عنده، ولولا ذلك لمَا كانت شريعة القبط تخوله ذلك، فقد قيل إن شرعهم في جزاء السارق أن يؤخذ منه الشيء ويضرب ويغرم ضعفي المسروق أو ضعفي قيمته. وعن مجاهد { في دين الملك } أي حكمه وهو استرقاق السراق. وهو الذي يقتضيه ظاهر الآية لقوله { ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك } أي لولا حيلة وضع الصُّواع في متاع أخيه. ولعل ذلك كان حكماً شائعاً في كثير من الأمم، ألا ترى إلى قولهممن وجد في رحله فهو جزاؤه } سورة يوسف 75 كما تقدم، أي أن ملك مصر كان عادلاً فلا يؤخذ أحد في بلاده بغير حق. ومثله ما كان في شرع الرومان من استرقاق المدين، فتعين أن المراد بالدّين الشريعة لا مطلق السلطان. ومعنى لام الجحود هنا نفي أن يكون في نفس الأمر سبب يخول يوسف عليه السلام أخذ أخيه عنده. والاستثناء من عموم أسباب أخذ أخيه المنفية. وفي الكلام حرف جر محذوف قبل { أن } المصدرية، وهو باء السببية التي يدل عليها نفي الأخذ، أي أسبابه. فالتقدير إلا بأن يشاء الله، أي يُلهم تصوير حالته ويأذن ليوسف ــــ عليه السلام ــــ في عَمله باعتبار ما فيه من المصالح الجمة ليوسف وإخوته في الحال والاستقبال لهم ولذريتهم. وجملة { نرفع درجات من نشاء } تذييل لقصة أخذ يوسف ــــ عليه السلام ــــ أخاه لأن فيها رفع درجة يوسف ــــ عليه السلام ــــ في الحال بالتدبير الحكيم من وقت مناجاته أخاه إلى وقت استخراج السقاية من رحله. ورفع درجة أخيه في الحال بإلحاقه ليوسف ــــ عليه السلام ــــ في العيش الرفيه والكمال بتلقي الحكمة من فيه.

السابقالتالي
2