الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَمَّا دَخَلُواْ مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم مَّا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِّنَ ٱللَّهِ مِن شَيْءٍ إِلاَّ حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ }

جملة معترضة، والواو اعتراضية. ودلت { حيث } على الجهة، أي لمّا دخلوا من الجهات التي أمرهم أبوهم بالدخول منها. فالجملة التي تضاف إليها { حيثُ } هي التي تُبين المراد من الجهة. وقد أغنت جملة { ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم } عن جمل كثيرة، وهي أنهم ارتحلوا ودخلوا من حيث أمرهم أبوهم، ولما دخلوا من حيث أمرهم سَلموا مما كان يخافه عليهم. وما كان دخولهم من حيث أمرهم يُغني عنهم من الله من شيء لوْ قدّر الله أن يحاط بهم، فالكلام إيجاز. ومعنى { ما كان يغني عنهم من الله من شيء } أنه ما كان يرد عنهم قضاء الله لولا أن الله قدر سلامتهم. والاستثناء في قوله { إلاّ حاجةً } منقطع لأن الحاجة التي في نفس يعقوب ــــ عليه السلام ــــ ليست بعضاً من الشيء المنفي إغناؤه عنهم من الله، فالتقدير لكن حاجة في نفس يعقوب ــــ عليه السلام ــــ قضاها. والقضاء الإنفاذ، ومعنى قضاها أنفذها. يقال قضى حاجة لنفسه، إذا أنفذ ما أضمره في نفسه، أي نصيحة لأبنائه أداها لهم ولم يدخرها عنهم ليطمئن قلبه بأنه لم يترك شيئاً يظنه نافعاً لهم إلاّ أبلغه إليهم. والحاجة الأمر المرغوب فيه. سمي حاجة لأنه محتاج إليه، فهي من التسمية باسم المصدر. والحاجة التي في نفس يعقوب ــــ عليه السلام ــــ هي حرصه على تنبيههم للأخطار التي تعرض لأمثالهم في مثل هذه الرحلة إذا دخلوا من باب واحد، وتعليمُهم الأخذ بالأسباب مع التوكل على الله. وجملة { وإنه لذو علم لما علمناه } معترضة بين جملة { ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم } الخ وبين جملة { ولكن أكثر الناس لا يعلمون }. وهو ثناء على يعقوب ــــ عليه السلام ــــ بالعلم والتدبير، وأنّ ما أسْداه من النصح لهم هو من العلم الذي آتاه الله وهو من علم النبوءة. وقوله { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } استدراك نشأ عن جملة { ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم } الخ. والمعنى أن الله أمر يعقوب ــــ عليه السلام ــــ بأخذ أسباب الاحتياط والنصيحة مع علمه بأن ذلك لا يغني عنهم من الله من شيء قدره لهم، فإن مراد الله تعالى خفيّ عن الناس، وقد أمر بسلوك الأسباب المعتادة، وعَلِم يعقوب ــــ عليه السلام ــــ ذلك، ولكن أكثر الناس لا يعلمون تطلب الأمرين فيهملون أحدهما، فمنهم من يهمل معرفة أن الأسباب الظاهرية لا تدفع أمراً قَدّره الله وَعَلِم أنه واقع، ومنهم من يهمل الأسباب وهو لا يعلم أن الله أراد في بعض الأحوال عدم تأثيرها. وقد دلّ { وإنه لذو علم لما علمناه } بصريحه على أن يعقوب ــــ عليه السلام ــــ عمل بما علّمه الله، ودلّ قوله { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } بتعريضه على أن يعقوب ــــ عليه السلام ــــ من القليل من الناس الذين علموا مراعاة الأمرين ليتقرر الثناء على يعقوب ــــ عليه السلام ــــ باستفادته من الكلام مرتين مرة بالصراحة ومرة بالاستدراك.

السابقالتالي
2