الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَقَالَ ٱلْمَلِكُ ٱئْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ ٱلْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ } * { قَالَ ٱجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَآئِنِ ٱلأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ }

السين والتاء في { أستخلصه } للمبالغة، مثلها في استجاب واستأجر. والمعنى أجْعَلْه خالصاً لنفسي، أي خاصّاً بي لا يشاركني فيه أحد. وهذا كناية عن شدة اتصاله به والعمل معه. وقد دلّ الملكَ على استحقاق يوسف ــــ عليه السلام ــــ تقريبَهُ منه ما ظهر من حكمته وعلمه، وصبره على تحمّل المشاق، وحسن خلقه، ونزاهته، فكل ذلك أوجب اصطفاءه. وجملة { فلما كلمه } مفرّعة على جملة محذوفة دل عليها { وقال الملك ائتوني به }. والتقدير فأتوه به، أي بيوسف ــــ عليه السلام ــــ فحضر لديه وكلّمه { فلما كلمه }. والضمير المنصوب في { كلمه } عائد إلى الملك، فالمكلّم هو يوسف ــــ عليه السلام ــــ. والمقصود من جملة { فلما كلمه } إفادة أن يوسف ــــ عليه السلام ــــ كلم الملك كلاماً أعجب الملك بما فيه من حكمة وأدب. ولذلك فجملة { قال إنك اليوم لدينا مكين أمين } جواب لَمّا. والقائل هو الملك لا محالة. والمكين صفة مشبهة من مكُن ــــ بضم الكاف ــــ إذا صار ذا مكانة، وهي المرتبة العظيمة، وهي مشتقة من المكان. والأمين فعيل بمعنى مفعول، أي مأمون على شيء، أي موثوق به في حفظه. وترتّب هذا القول على تكليمه إياه دالّ على أن يوسف ــــ عليه السلام ــــ كلّم الملك كلام حكيم أديب فلما رأى حسن منطقه وبلاغة قوله وأصالة رأيه رآه أهلاً لثقته وتقريبه منه. وهذه صيغة تولية جامعة لكل ما يحتاج إليه ولي الأمر من الخصال، لأن المكانة تقتضي العلم والقدرة إذ بالعلم يتمكن من معرفة الخير والقصد إليه، وبالقدرة يستطيع فعل ما يبدو له من الخير والأمانة تستدعي الحكمة والعدالة، إذ بالحكمة يوثر الأفعال الصالحة ويترك الشهوات الباطلة، وبالعدالة يوصل الحقوق إلى أهلها. وهذا التنويه بشأنه والثناء عليه تعريض بأنه يريد الاستعانة به في أمور مملكته وبأن يقترح عليه ما يرجو من خير، فلذلك أجابه بقوله { اجعلني على خزائن الأرض }. وجملة { قال اجعلني على خزائن الأرض } حكاية جوابه لكلام الملك ولذلك فصلت على طريقة المحاورات. و { على } هنا للاستعلاء المجازي، وهو التصرف والتمكن، أي اجعلني متصرّفاً في خزائن الأرض. و { خزائن } جمع خِزانة ــــ بكسر الخاء ــــ، أي البيت الذي يختزن فيه الحبوب والأموال. والتعريف في { الأرض } تعريف العهد، وهي الأرض المعهودة لهم، أي أرض مصر. والمراد من { خزائن الأرض } خزائن كانت موجودة، وهي خزائن الأموال إذ لا يخلو سلطان من خزائن معدودة لنوائب بلاده لا الخزائن التي زيدت من بعد لخزن الأقوات استعداداً للسنوات المعبر عنها بقولهمما تحصنون } سورة يوسف 48. واقتراح يوسف عليه السلام ذلك إعداد لنفسه للقيام بمصالح الأمة على سنة أهل الفضل والكمال من ارتياح نفوسهم للعلم في المصالح، ولذلك لم يسأل مالاً لنفسه ولا عَرَضاً من متاع الدنيا، ولكنه سأل أن يوليه خزائن المملكة ليحفظ الأموال ويعدل في توزيعها ويرفق بالأمة في جمعها وإبلاغها لمحالّها.

السابقالتالي
2