الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَئاً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّيناً وَقَالَتِ ٱخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَـٰذَا بَشَراً إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ } * { قَالَتْ فَذٰلِكُنَّ ٱلَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَٱسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَآ آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِّن ٱلصَّاغِرِينَ }

حقّ سمع أن يعدّى إلى المسموع بنفسه، فتعديته بالباء هنا إما لأنه ضمن معنى أخْبِرت، كقول المثل «تسمع بالمعيدي خير من أن تراه» أي تخبر عنه. وإما أن تكون الباء مزيدة للتوكيد مثل قوله تعالىوامسحوا برؤوسكم } سورة المائدة 6. وأطلق على كلامهن اسم المكر، قيل لأنهن أردن بذلك أن يبلغ قولهن إليها فيغريَها بعَرضها يوسف عليه السّلام عليهن فيريْنَ جماله لأنهن أحببن أن يرينه. وقيل لأنهن قلنه خفية فأشبه المكر، ويجوز أن يكون أطلق على قولهن اسم المكر لأنهن قلنه في صورة الإنكار وهن يُضمرن حسَدَها على اقتناء مثله، إذ يجوز أن يكون الشغف بالعبد في عادتهم غير منكر. { وأعتدت } أصله أعددت، أبدلت الدال الأولى تاء، كما تقدم عند قوله تعالىوأعتدنا للكافرين عذاباً مُهيناً } في سورة النساء 37. والمتّكأ محل الاتكاء. والاتكاء جِلسة قريبة من الاضطجاع على الجنب مع انتصاب قليل في النصف الأعلى. وإنما يكون الاتكاء إذا أريد إطالة المكث والاستراحة، أي أحضرت لهن نمارق يتّكِئْن عليها لتناول طعام. وكان أهل الترف يأكلون متكئين كما كانت عادةً للرومان، ولم تزل أسرّة اتكائهم موجودة في ديار الآثار. وقال النبي صلى الله عليه وسلم " أمّا أنَا فلا آكلُ متكئاً " ومعنى { آتت } أمرت خدمها بالإيتاء كقولهيا هامان ابن لي صرحاً } سورة غافر 36. والسكين آلة قطع اللحم وغيره. قيل أحضرت لهن أتْرُجاً ومَوْزاً فحضرن واتكأن، وقد حذف هذان الفعلان إيجازاً. وأعطت كل واحدة سكيناً لقشر الثمار. وقولها { أُخرج عليهن } يقتضي أنه كان في بيت آخر وكان لا يدخل عليها إلا بإذنها. وعدّي فعل الخروج بحرف على لأنه ضمن معنى أُدخل لأن المقصود دخوله عليهن لا مجرد خروجه من البيت الذي هو فيه. ومعنى { أكبرنه } أعظمنه، أي أعظمن جماله وشمائله، فالهمزة فيه للعدّ، أي أعددنه كبيراً، وأطلق الكبر على عظيم الصفات تشبيهاً لِوفرة الصفات بعظم الذات. وتقطيع أيديهن كان من الذهول، أي أجرين السكاكين على أيديهن يحسبن أنهن يقطعن الفواكه. وأريد بالقطع الجُرح، أطلق عليه القطع مجازاً للمبالغة في شدته حتى كأنه قَطْع قطعة من لحم اليد. و { حاش لله } تركيب عربي جرى مجرى المثل يراد منه إبطال شيء عن شيء وبراءته منه. وأصل حاشا فعل يدل على المباعدة عن شيء، ثم يعامل معاملة الحرف فيجَرُّ به في الاستثناء فيقتصر عليه تارة. وقد يوصل به اسم الجلالة فيصير كاليمين على النفي يقال حَاشَا الله، أي أحاشيه عن أن يكذب، كما يقال لا أقسم. وقد تزاد فيه لام الجر فيقال حاشا لله وحاش لله، بحذف الألف، أي حاشا لأجله، أي لخوفه أن أكذب. حكي بهذا التركيب كلام قالته النسوة يدل على هذا المعنى في لغة القبط حكاية بالمعنى.

السابقالتالي
2