الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَجَآءُوۤا أَبَاهُمْ عِشَآءً يَبْكُونَ } * { قَالُواْ يَٰأَبَانَآ إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ ٱلذِّئْبُ وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ } * { وَجَآءُوا عَلَىٰ قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَٱللَّهُ ٱلْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ }

{ وَجَآءُوۤا أَبَاهُمْ عِشَآءً يَبْكُونَ * قَالُواْ يَـٰأَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَـٰعِنَا فَأَكَلَهُ ٱلذِّئْبُ وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صَـٰدِقِينَ * وَجَآءُوا عَلَىٰ قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ } عطف على جملةفلما ذهبوا به } سورة يوسف 15 عطف جزء القصة. والعشاء وقت غيبوبة الشفق الباقي من بقايا شعاع الشمس بعد غروبها. والبكاء خروج الدموع من العينين عند الحزن والأسف والقهر. وتقدم في قوله تعالىفليضحكوا قليلاً وليبكوا كثيراً } سورة التوبة 82. وقد أطلق هنا على البكاء المصطنع وهو التباكي. وإنما اصطنعوا البكاء تمويهاً على أبيهم لئلا يظن بهم أنهم اغتالوا يوسف عليه السّلام، ولعلّهم كانت لهم مقدرة على البكاء مع عدم وجدان موجبه، وفي الناس عجائب من التمويه والكيد. ومن الناس من تتأثر أعصابهم بتخيل الشيء ومحاكاته فيعتريهم ما يعتري الناس بالحقيقة. وبعض المتظلمين بالباطل يفعلون ذلك، وفطنة الحاكم لا تنخدع لمثل هذه الحيل ولا تنوط بها حكماً، وإنما يناط الحكم بالبينة. جاءت امرأة إلى شريح تخاصم في شيء وكانت مبطلة فجعلت تبكي، وأظهر شريح عدم الاطمئنان لدعواها، فقيل له أما تراها تبكي؟ فقال قد جاء إخوة يوسف عليه السّلام أباهم عشاء يبكون وهم ظلَمة كَذبَة، لا ينبغي لأحد أن يقضي إلا بالحق. قال ابن العربي قال علماؤنا هذا يدلّ على أن بكاء المرء لا يدل على صدق مقاله لاحتمال أن يكون تصنّعاً. ومن الخلق من لا يقدر على ذلك ومنهم من يقدر. قلت ومن الأمثال " دموع الفاجر بيديه " وهذه عبرة في هذه العبرة. والاستباق افتعال من السبق وهو هنا بمعنى التسابق قال في الكشاف «والافتعال والتفاعل يشتركان كالانتضال والتناضل، والارتماء والترامي، أي فهو بمعنى المفاعلة. ولذلك يقال السباق أيضاً. كما يقال النضال والرماء». والمراد الاستباق بالجري على الأرجل، وذلك من مرح الشباب ولعبهم. والمتاع ما يتمتع أي ينتفع به. وتقدم قي قوله تعالىلو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم } في سورة النساء 102. والمراد به هنا ثَقَلهم من الثياب والآنية والزاد. ومعنى { فأكله الذئب } قتله وأكل منه، وفعل الأكل يتعلق باسم الشيء. والمراد بعضه. يقال أكلَه الأسد إذا أكل منه. قال تعالىوما أكل السّبع } سورة المائدة 3 عطفاً على المنهيات عن أن يؤكل منها، أي بقتلها. ومن كلام عمر حين طعنه أبو لؤلؤة " أكلني الكلب " ، أي عضّني. والمراد بالذئب جمع من الذئاب على ما عرفت آنفاً عند قولهوأخاف أن يأكله الذئب } سورة يوسف 13 بحيث لم يترك الذئاب منه، ولذلك لم يقولوا فدفنّاه. وقوله { وما أنت بمؤمن لنا } خبر مستعمل في لازم الفائدة. وهو أن المتكلم علم بمضمون الخبر. وهو تعريض بأنهم صادقون فيما ادّعوه لأنهم يعلمون أباهم لا يصدقهم فيه، فلم يكونوا طامعين بتصديقه إياهم.

السابقالتالي
2 3