الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ قَالُواْ يَٰأَبَانَا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَىٰ يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ } * { أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ }

استئناف بيانيّ لأنّ سوق القصّة يستدعي تساؤل السامع عمّا جَرَى بعد إشارة أخيهم عليهم، وهل رجعوا عمّا بيتوا وصمّموا على ما أشار به أخوهم. وابتداء الكلام مع أبيهم بقولهم { يا أبانا } يقضي أنّ تلك عادتهم في خطاب الابن أباه. ولعل يعقوب ـــ عليه السّلام ـــ كان لا يأذن ليوسف ـــ عليه السّلام ـــ بالخروج مع إخوته للرعي أو للسّبق خوفاً عليه من أن يصيبه سوء من كيدهم أو من غيرهم، ولم يكن يصرّح لهم بأنّه لا يأمنهم عليه ولكن حاله في منعه من الخروج كحال من لا يأمنهم عليه فنزّلوه منزلة من لا يأمنهم، وأتوا بالاستفهام المستعمل في الإنكار على نفي الائتمان. وفي التّوراة أن يعقوب ـــ عليه السّلام ـــ أرسله إلى إخوته وكانوا قد خرجوا يرعون، وإذا لم يكن تحريفاً فلعلّ يعقوب ـــ عليه السّلام ـــ بعد أن امتنع من خروج يوسف ـــ عليه السّلام ـــ معهم سمح له بذلك، أو بعد أن سمع لومهم عليه سمح له بذلك. وتركيب { ما لك } لا تفعل. تقدّم الكلام عليها عند قوله تعالىفما لكم كيف تحكمون } في سورة يونس 35، وانظر قوله تعالىيا أيها الذين آمنوا مَا لَكمْ إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثّاقلتم إلى الأرض } في سورة بَراءة 38. وقولهفما لكم في المنافقين فئتين } في سورة النساء 88. واتفق القرّاء على قراءة { لا تأمنّا } بنون مشددة مدغمة من نون أمن ونون جماعة المتكلّمين، وهي مرسومة في المصحف بنون واحدة. واختفلوا في كيفية النطق بهذه النون بين إدغام محض، وإدغام بإشمام، وإخفاء بلا إدغام، وهذا الوجه الأخير مرجوح، وأرجح الوجهين الآخرين الإدغام بإشمام، وهما طريقتان للكل وليسا مذهبين. وحرف { على } التي يتعدّى بها فعل الأمن المنفي للاستعلاء المجازي بمعنى التمكّن من تعلّق الائتمان بمدخول { على }. والنّصح عمل أو قول فيه نفع للمنصوح، وفعله يتعدّى باللاّم غالباً وبنفسه. وتقدّم في قوله تعالىأبلّغكم رسالات ربّي وأنصح لكم } في سورة الأعراف 62. وجملة { وإنّا له لناصحون } معترضة بين جملتي { ما لك لا تأمنّا } وجملة { أرسله }. والمعنى هنا أنهم يعملون ما فيه نفع ليوسف ـــ عليه السّلام ـــ. وجملة { أرسله } مستأنفة استئنافاً بيانيّاً لأن الإنكار المتقدّم يثير ترقب يعقوب ـــ عليه السّلام ـــ لمعرفة ما يريدون منه ليوسف ـــ عليه السّلام ـــ. و { يرتَع } قرأه نافع، وأبو جعفر، ويعقوب ـــ بياء الغائب وكسر العَين ـــ. وقرأه ابن كثير ـــ بنون المتكلّم المشارك وكسر العين ـــ وهو على قراءتي هؤلاء الأربعة مضارع ارتعَى وهو افتعال من الرّعي للمبالغة فيه. فهو حقيقة في أكل المواشي والبهائم واستعير في كلامهم للأكل الكثير لأنّ الناس إذا خرجوا إلى الرّياض والأرياف للّعب والسّبق تقوى شهوة الأكل فيهم فيأكلون أكلاً ذريعاً فلذلك شبّه أكلهم بأكل الأنعام.

السابقالتالي
2