الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَىٰ وَلَـٰكِن تَصْدِيقَ ٱلَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ }

هذا من رد العجز على الصدر فهي مرتبطة بجملةذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك } سورة يوسف 102 وهي تتنزّل منها منزلة البيان لما تضمنه معنى الإشارة في قوله ذلك من أنباء الغيب } من التعجيب، وما تضمنه معنى { وما كنتَ لديهم } من الاستدلال على أنه وحي من الله مع دلالة الأمية. وهي أيضاً تتنزل منزلة التذييل للجمل المستطرد بها لقصد الاعتبار بالقصة ابتداء من قولهوما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين } يوسف 103. فلها مواقع ثلاثة عجيبة من النظم المعجز. وتأكيد الجملة ب قد واللام للتحقيق. وأولو الألباب أصحاب العقول. وتقدم في قولهواتقون يا أولي الألباب } في أواسط سورة البقرة 197. والعِبرة اسم مصدر للاعتبار، وهو التوصل بمعرفة المشاهد المعلوم إلى معرفة الغائب وتطلق العِبرة على ما يحصل به الاعتبار المذكور من إطلاق المصدر على المفعول كما هنا. ومعنى كون العبرة في قصصهم أنها مظروفة فيه ظرفية مجازية، وهي ظرفية المدلول في الدليل فهي قارة في قصصهم سواء اعتَبر بها من وُفّق للاعتبار أم لم يعتبر لها بعضُ الناس. وجملة { ما كان حديثا يفترى } إلى آخرها تعليل لجملة { لقد كان في قصصهم عبرة } أي لأن ذلك القصص خبر صدق مطابق للواقع وما هو بقصة مخترعة. ووجه التعليل أن الاعتبار بالقصة لا يحصل إلا إذا كانت خبراً عن أمر وقع، لأن ترتب الآثار على الواقعات رتّب طبيعي فمِن شأنها أن تترتب أمثالُها على أمثالها كلما حصلت في الواقع، ولأن حصولها ممكن إذ الخارج لا يقع فيه المحال ولا النادر وذلك بخلاف القصص الموضوعة بالخيال والتكاذيب فإنها لا يحصل بها اعتبار لاستبعاد السامع وقوعها لأن أمثالها لا يُعهد، مثل مبالغات الخرافات وأحاديث الجن والغُول عند العرب وقصة رستم وأسفنديار عند العجم، فالسامع يتلقاها تلقي الفكاهات والخيالات اللذيذة ولا يتهيأ للاعتبار بها إلاّ على سبيل الفرص والاحتمال وذلك لا تحتفظ به النفوس. وهذه الآية ناظرة إلى قوله تعالى في أول السورةنحن نقص عليك أحسن القصص } يوسف 3 فكما سماه الله أحسن القصص في أول السورة نفى عنه الافتراء في هذه الآية تعريضاً بالنضر بن الحارث وأضرابه. والافتراء تقدم في قولهولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب } في سورة العقود 103. و { الذي بين يديه } الكتب الإلٰهية السابقة. وضمير بين { يديه } عائد إلى القرآن الذي من جملته هذه القصص. والتفصيل التبيين. والمراد بــــ { كل شيء } الأشياء الكثيرة مما يرجع إلى الاعتبار بالقصص. وإطلاق الكل على الكثرة مضى عند قوله تعالىوإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها } في سورة الأنعام 31. والهُدى الذي في القصص العبر الباعثة على الإيمان والتقوى بمشاهدة ما جاء من الأدلة في أثناء القصص على أن المتصرف هو الله تعالى، وعلى أن التقوى هي أساس الخير في الدنيا والآخرة، وكذلك الرحمة فإن في قصص أهل الفضل دلالة على رحمة الله لهم وعنايته بهم، وذلك رحمة للمؤمنين لأنهم باعتبارهم بها يأتون ويذرون، فتصلح أحوالهم ويكونون في اطمئنان بال، وذلك رحمة من الله بهم في حياتهم وسببٌ لرحمته إياهم في الآخرة كما قال تعالىمن عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون } النحل 97.