الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ ٱلْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ ٱلأَحَادِيثِ فَاطِرَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي ٱلدُّنُيَا وَٱلآخِرَةِ تَوَفَّنِى مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِٱلصَّالِحِينَ }

أعقب ذكر نعمة الله عليه بتوجهه إلى مناجاة ربه بالاعتراف بأعظم نعم الدنيا والنعمة العظمى في الآخرة، فذكر ثلاث نعم اثنتان دنيويتان وهما نعمة الولاية على الأرض ونعمة العلم، والثالثة أخروية وهي نعمة الدين الحق المعبر عنه بالإسلام - وجعل الذي أوتيه بعضاً من الملك ومن التأويل لأن ما أوتيه بعض من جنس الملك وبعض من التأويل إشعاراً بأن ذلك في جانب مُلك الله وفي جانب علمه شيء قليل. وعلى هذا يكون المراد بالمُلك التصرف العظيم الشبيه بتصرف المَلِك إذ كان يوسف ــــ عليه السلام ــــ هو الذي يُسير المَلك برأيه. ويجوز أن يراد بالمُلك حقيقته ويكون التبعيض حقيقياً، أي آتيتني بعض المُلك لأن المُلك مجموع تصرفات في أمر الرعية، وكان ليوسف ــــ عليه السلام ــــ من ذلك الحظُّ الأوفر، وكذلك تأويل الأحاديث. وتقدم معنى تأويل الأحاديث عند قوله تعالىويعلمك من تأويل الأحاديث } يوسف 6 في هذه السورة. و { فاطر السماوات والأرض } نداء محذوف حرف ندائه. والفاطر الخالق. وتقدم عند قوله تعالىقل أغير الله أتخذ ولياً فاطر السماوات والأرض } في سورة الأنعام 14. والولي الناصر، وتقدم عند قوله تعالىقل أغير الله أتخذ ولياً } في سورة الأنعام. وجملة { أنت وليي في الدنيا والآخرة } من قبيل الخبر في إنشاء الدعاء وإن أمكن حمله على الإخبار بالنسبة لولاية الدنيا، قيل لإثباته ذلك الشيء لولاية الآخرة. فالمعنى كن وليـــي في الدنيا والآخرة. وأشار بقوله { توفني مسلما } إلى النعمة العظمى وهي نعمة الدين الحق، فإن طلب توفّيه على الدين الحق يقتضي أنه متصف بالدين الحق المعبر عنه بالإسلام من الآن، فهو يسأل الدوام عليه إلى الوفاة. والمسلم الذي اتصف بالإسلام، وهو الدين الكامل، وهو ما تعبّدَ اللّهَ به الأنبياء والرسل ــــ عليهم السلام ــــ. وقد تقدم عند قوله تعالىفلا تموتن إلا وأنتم مسلمون } في سورة آل عمران 102. والإلحاق حقيقته جعل الشيء لاَ حقاً، أي مُدركاً من سبقه في السّيْر. وأطلق هنا مجازاً على المَزيد في عداد قوم. والصالحون المتصفون بالصلاح، وهو التزام الطاعة. وأراد بهم الأنبياء. فإن كان يوسف عليه السلام يومئذٍ نبيئاً فدعاؤهُ لطلب الدوام على ذلك، وإن كان نُبّىء فيما بعد فهو دعاء لحصوله، وقد صار نبيئاً بعد ورسولاً.