الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ ٱلنَّاسِ } * { مَلِكِ ٱلنَّاسِ } * { إِلَـٰهِ ٱلنَّاسِ } * { مِن شَرِّ ٱلْوَسْوَاسِ ٱلْخَنَّاسِ } * { ٱلَّذِى يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ ٱلنَّاسِ } * { مِنَ ٱلْجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ }

شابهت فاتحتها فاتحة سورة الفلق إلا أن سورة الفلق تعوُّذ من شرور المخلوقات من حيوان وناس، وسورة الناس تعوّذ من شرور مخلوقات خفيّة وهي الشياطين. والقول في الأمر بالقول، وفي المقول، وفي أن الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمقصود شموله أمته، كالقول في نظيره من سورة الفلق سواء. وعُرِّف { رب } بإضافته إلى { الناس } دون غيرهم من المربوبين لأن الاستعاذة من شر يلقيه الشيطان في قلوب الناس فيَضِلُّون ويُضلون، فالشر المستعاذ منه مصبه إلى الناس، فناسب أن يُستحضر المستعاذُ إليه بعنوان أنه رب من يُلْقون الشر ومن يُلْقَى إليهم ليصرف هؤلاء ويدفع عن الآخرين كما يقال لمَولى العبد يا مولَى فلان كُف عني عبدك. وقد رتبت أوصاف الله بالنسبة إلى الناس ترتيباً مدرَّجاً فإن الله خالقهم، ثم هم غير خارجين عن حكمه إذا شاء أن يتصرف في شؤونهم، ثم زيد بياناً بوصف إلٰهيته لهم ليتبين أن ربوبيته لهم وحاكميته فيهم ليست كربوبية بعضهم بعضاً وحاكمية بعضهم في بعض. وفي هذا الترتيب إشعار أيضاً بمراتب النظر في معرفة الله تعالى فإن الناظر يعلم بادىء ذي بدء بأن له رباً يسبب ما يشعُر به من وجود نفسه، ونعمة تركيبه، ثم يتغلغل في النظر فيَشعر بأن ربه هو المَلِكُ الحقُّ الغني عن الخلق، ثم يعلم أنه المستحق للعبادة فهو إلٰه الناس كلهم. و { ملك الناس } عطف بيان من { رب الناس } وكذلك { إله الناس } فتكرير لفظ { الناس } دون اكتفاء بضميره لأن عطف البيان يقتضي الإِظهار ليكون الاسم المبيِّن بكسر الياء مستقلاً بنفسه لأن عطف البيان بمنزلة علَم للاسم المبيَّن بالفتح. و { الناس } اسم جمع للبشر جميعهم أو طائفة منهم ولا يطلق على غيرهم على التحقيق. و { الوسواس } المتكلم بالوسوسة، وهي الكلام الخفيّ، قال رُؤبة يصف صائداً في قُتْرتِه
وَسْوَسَ يَدْعُو مُخلصاً ربَّ الفَلَقْ   
فالوسواس اسم فاعل ويطلق الوسواس بفتح الواو مجازاً على ما يخطر بنفس المرء من الخواطر التي يتوهمها مثل كلام يكلم به نفسه قال عُروة بن أذينة
وإذا وجَدْت لها وسَاوِسَ سَلوَةٍ شفَع الفؤادُ إلى الضمير فسَلَّها   
والتعريف في { الوسواس } تعريف الجنس وإطلاق { الوسواس } على معنييه المجازي والحقيقي يشمل الشياطين التي تلقي في أنفُس الناس الخواطر الشريرة، قال تعالىفوسوس إليه الشيطان } طه 120، ويشمل الوسواسُ كل من يتكلم كلاماً خفياً من الناس وهم أصحاب المكائد والمؤامرات المقصود منها إلحاق الأذى من اغتيال نفوس أو سرقة أموال أو إغراءٍ بالضلال والإِعراض عن الهدى، لأن شأن مذاكرة هؤلاء بعضهم مع بعض أن تكون سِراً لئلا يطلع عليها من يريدون الإِيقاعَ به، وهم الذين يتربصون برسول الله صلى الله عليه وسلم الدوائر ويغرون الناس بأذِيَّتِهِ.

السابقالتالي
2 3