الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ قَالُواْ يٰشُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَآ أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ }

والفقه الفهم. وتقدّم عند قوله تعالىفمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً } في سورة النّساء 78، وقولهانظر كيف نصرّف الآيات لعلّهم يفقهون } في سورة الأنعام 65. ومرادهم من هذا يحتمل أن يكون قصد المباهتة كما حكى الله عن المشركينوقالوا قلوبنا في أكنةٍ ممّا تدعونا إليه وفي آذاننا وقْرٌ } فصلت 5 وقوله عن اليهودوقالوا قلوبنا غلفٌ } البقرة 88. ويجوز أن يكون المراد ما نتعقّله لأنه عندهم كالمحال لمخالفته ما يألفون، كما حكى الله عن غيرهم بقولهأجعل الآلهة إلهاً واحداً إنّ هذا لشيءٌ عجابٌ } ص 5، وليس المراد عدم فهم كلامه لأنّ شعيباً ـ عليه السّلام ـ كان مقوالاً فصيحاً، ووصفه النبي صلى الله عليه وسلم بأنه خطيب الأنبياء. فالمعنى أنك تقول مَا لاَ نصدق به. وهذا مقدمة لإدانته واستحقاقه الذم والعقاب عندهم في قولهم { ولولا رهطك لرجمناك } ، ولذلك عطفوا عليه { وإنّا لنراك فينا ضعيفاً } أي وإنّك فينا لضعيف، أي غير ذي قوّة ولا منعة. فالمراد الضعف عن المدافعة إذا راموا أذَاهُ وذلك ممّا يُرى لأنّه تُرى دلائله وسماته. وذكر فعل الرؤية هنا للتّحقيق، كما تقدّم في قوله تعالىما نراك إلاّ بشراً مثلنا وما نراك اتّبعك إلاّ الذين هم أراذلنا } هود 27 بحيث نزّلوه منزلة من تُظنون أنهم لا يرون ذلك بأبصارهم فصرحوا بفعل الرؤية. وأكّدوه بِـإنّ وَلاَم الابتداء مبالغة في تنزيله منزلة من يجهل أنهم يعلمون ذلك فيه، أوْ مَنْ ينكر ذلك. وفي هذا التنزيل تعريض بغباوته كما في قول حجل بن نضلة
إن بني عمّك فيهم رماح   
ومن فساد التفاسير تفسير الضعيف بفاقد البصر وأنه لغة حميرية فركبوا منه أنّ شعيباً ـ عليه السّلام ـ كان أعمى، وتطرّقوا من ذلك إلى فرض مسألة جواز العمى على الأنبياء، وهو بناء على أوهام. ولم يعرف من الأثر ولا من كتب الأوّلين ما فيه أنّ شعيباً ـ عليه السّلام ـ كان أعمى. وعطفوا على هذا قولهم { وَلَوْلاَ رهطك لرجمناك } وهو المقصود ممّا مُهّد إليه من المقدمات، أي لا يصدّنا عن رجمك شيء إلاّ مكان رهطك فينا، لأنك أوجبت رجمك بطعنك في ديننا. والرهط إذا أضيف إلى رجل أريد بِه القرابة الأدنَوْن لأنّهم لا يكونون كثيراً، فأطلقوا عليهم لفظ الرهط الذي أصله الطائفة القليلة من الثلاثة إلى العشرة، ولم يقولوا قومك، لأنّ قومه قد نبذوه. وكان رهط شعيب ـ عليه السّلام ـ من خاصة أهل دين قومه فلذلك وقّروهم بكفّ الأذى عن قريبهم لأنهم يكرهون ما يؤذيه لقرابته. ولولا ذلك لما نصره رهطه لأنّهم لا ينصرون من سخطه أهل دينهم. على أنّ قرابته ما هم إلاّ عددٌ قليل لا يُخشى بأسهم ولكن الإبقاء عليه مجرد كرامة لقرابته لأنّهم من المخلصين لدينهم.

السابقالتالي
2