الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ قَالَ يٰقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَآ أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ ٱلإِصْلاَحَ مَا ٱسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِيۤ إِلاَّ بِٱللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ }

تقدّم نظير الآية في قصة نوح وقصة صالح ـ عليهما السّلام ـ. والمراد بالرزق الحسن هنا مثل المراد من الرحمة في كلام نوح وكلام صالح ـ عليهما السلام ـ وهو نعمة النبوءة،وإنّما عبّر شعيب ـ عليه السّلام ـ عن النبوءة بالرزق على وجه التشبيه مشاكلة لقولهمأو أن نفعل في أموالنا ما نشاء } هود 87 لأنّ الأموال أرزاق. وجواب الشرط محذوف يدل عليه سياق الكلام، أو يدل عليه { إن كنتُ على بينة من ربي }. والتقدير مَاذا يسعكم في تكذيبي، أو ماذا ينجيكم من عاقبة تكذيبي، وهو تحذير لهم على فرض احتمال أن يكون صادقاً، أي فالحزم أن تأخذوا بهذا الاحتمال، أو فالحزم أن تنظروا في كنه ما نهيتكم عنه لتعلموا أنّه لصلاحكم. ومعنى { وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه } عند جميع المفسّرين من التّابعين فمَن بعدهم ما أريد ممّا نهيتكم عنه أن أمنعكم أفعالاً وأنا أفعلها، أي لم أكن لأنْهاكم عنْ شيء وأنا أفعله. وبيّن في «الكشاف» إفادة التركيب هذا المعنى بقوله «يقال خالفني فلان إلى كذا إذا قصده وأنت مُوَلّ عنه... ويلقاك الرجلُ صادراً عن الماء فتسأله عن صاحبه فيقول خالفني إلى الماء، يريد أنه قد ذهب إليه وارداً وأنا ذاهب عنه صادراً» اهـ. وبيانه أن المخالفة تدل على الاتصاف بضد حاله، فإذا ذُكرت في غرض دلّت على الاتصاف بضده، ثم يبيّن وجه المخالفة بذكر اسم الشيء الذي حصل به الخلاف مدخولاً لحرف { إلى } الدّال على الانتهاء إلى شيء كما في قولهم خالفني إلى الماء لتضمين { أخالفكم } معنى السعي إلى شيء. ويتعلق { إلى ما أنهاكم } بفعل { أخالفكم } ، ويكون { أن أخالفكم } مفعول { أريد }. فقوله { أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه } أي أن أفعل خلاف الأفعال التي نهيتكم عنها بأن أصرفكم عنها وأنا أصير إليها. والمقصود بيان أنه مأمور بذلك أمراً يعمّ الأمة وإياه وذلك شأن الشرائع، كما قال علماؤنا إنّ خطاب الأمة يشمل الرسول ـ عليه الصلاة والسّلام ـ ما لم يدل دليل على تخصيصه بخلاف ذلك، ففي هذا إظهار أنّ ما نهاهم عنه ينهى أيضاً نفسه عنه. وفي هذا تنبيه لهم على مَا فِي النهي من المصلحة، وعلى أن شأنه ليس شأن الجبابرة الذين ينهون عن أعمال وهم يأتونها، لأن مثل ذلك يُنْبِىءُ بعدم النصح فيما يأمرون وينهون، إذ لو كانوا يريدون النصح والخير في ذلك لاختاروه لأنفسهم وإلى هذا المعنى يرمي التوبيخ في قوله تعالىأتأمرون الناس بالبرّ وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون } البقرة 44 أي وأنتم تتلون كتاب الشريعة العامة لكم أفلا تعقلون فتعلموا أنكم أولَى بجلب الخير لأنفسكم.

السابقالتالي
2