الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ قَالُواْ يٰلُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُوۤاْ إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ ٱلْلَّيْلِ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ ٱمْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَآ أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ ٱلصُّبْحُ أَلَيْسَ ٱلصُّبْحُ بِقَرِيبٍ }

هذا كلام الملائكة للوط ـ عليه السّلام ـ كاشفوه بأنّهم ملائكة مرسلون من الله تعالى. وإذ قد كانوا في صورة البشر وكانوا حاضري المجادلة حكى كلامهم بمثل ما تحكى به المحاورات فجاء قولهم بدون حرف العطف على نحو ما حكي قول لوط ـ عليه السّلام ـ وقول قومه. وهذا الكلام الذي كلّموا به لوطاً ـ عليه السّلام ـ وحي أوحاه الله إلى لوط ـ عليه السّلام ـ بواسطة الملائكة، فإنه لمّا بلغ بِلُوط توقعُ أذى ضيفه مبلغَ الجزع ونفاد الحيلة جاءه نصر الله على سنّة الله تعالى مع رسلهحتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا } يوسف 110. وابتدأ الملائكة خطابهم لوطاً ـ عليه السّلام ـ بالتعريف بأنفسهم لتعجيل الطمأنينة إلى نفسه لأنّه إذا علم أنهم ملائكة علم أنهم ما نزلوا إلاّ لإظهار الحق. قال تعالىما ننزّل الملائكةُ إلاّ بالحق وما كانوا إذاً منْظرين } الحجر 8. ثم ألحقوا هذا التعريف بالبشارة بقولهم { لن يصلوا إليك }. وجيء بحرف تأكيد النفي للدّلالة على أنهم خاطبوه بما يزيل الشك من نفسه. وقد صرف الله الكفّار عن لوط ـ عليه السّلام ـ فرجعوا من حيث أتوا، ولو أزال عن الملائكة التشكّل بالأجساد البشرية فأخفاهم عن عيون الكفّار لحسبوا أنّ لوطاً ـ عليه السّلام ـ أخفاهم فكانوا يؤذون لوطاً ـ عليه السّلام ـ. ولذلك قال له الملائكة { لن يصلوا إليك } ولم يقولوا لن ينالوا، لأنّ ذلك معلوم فإنهم لمّا أعلموا لوطاً ـ عليه السّلام ـ بأنهم ملائكة ما كان يشك في أن الكفّار لا ينالونهم، ولكنّه يخشى سورتهم أن يتّهموه بأنه أخفاهم. ووقع في التوراة أن الله أعمى أبصار المراودين لوطاً ـ عليه السّلام ـ عن ضيفه حتى قالوا إنّ ضيف لوط سَحرة فانصرفوا. وذلك ظاهر قوله تعالى في سورة القمر 37ولقد رَاودوه عن ضيفه فطمسْنا أعينهم } وجملة { لن يصلوا إليك } مبيّنة لإجمال جملة { إنّا رسُل ربّك } ، فلذلك فصلت فلم تعطف لأنها بمنزلة عطف البيان. وتفريع الأمر بالسُرى على جملة { لن يصلوا إليك } لما في حرف { لَن } من ضمان سلامته في المستقبل كلّه. فلمّا رأى ابتداء سلامته منهم بانصرافهم حسن أن يبين له وجه سلامته في المستقبل منهم باستئصالهم وبنجاته، فذلك موقع فاء التفريع. وأسْر أمر بالسُرى ـ بضم السين والقصر ـ. وهو اسم مصدر للسير في الليل إلى الصباح. وفعله سَرى يقال بدون همزة في أوّله ويقال أسرى بالهمزة. قرأه نافع، وابن كثير، وأبو جعفر ـ بهمزة وصل ـ على أنه أمر من سَرى. وقرأه الباقون بهمزة قطع على أنه من أسرى. وقد جمعوه في الأمر مع أهله لأنه إذا سرى بهم فقد سرى بنفسه إذ لو بعث أهله وبقي هو لَمَا صحّ أن يقال أسْر بهم للفرق بين أذهبت زيداً وبين ذهبت به.

السابقالتالي
2