الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَجَآءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ ٱلسَّيِّئَاتِ قَالَ يٰقَوْمِ هَـٰؤُلاۤءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُواْ اللًّهَ وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ }

أي جاءه بعضُ قومه. وإنما أسند المجيء إلى القوم لأن مثل ذلك المجيء دأبهم وقد تمالؤوا على مثله، فإذا جاء بعضهم فسيعقبه مجيء بعض آخر في وقت آخر. وهذا من إسناد الفعل إلى القبيلة إذا فعله بعضها، كقول الحارث بن وعلة الجرمي
قومي همُ قتلوا أمَيْمة أخي فإذا رميتُ يصيبني سهمي   
و { يُهرعون } ـ بضم الياء وفتح الراء على صيغة المبني للمفعول ـ فسّروه بالمشي الشبيه بمشي المدفوع، وهو بين الخبب والجَمْز، فهو لا يكون إلا مبنيّاً للمفعول لأن أصله مشي الأسير الذي يُسرَع به. وهذا البناء يقتضي أن الهَرْع هو دفع الماشي حين مشيه إلاّ أن ذلك تنوسِيَ، وبقي أهرع بمعنى سار سيراً كسير المدفوع، ولذلك قال جمع من أهل اللغة إنّه من الأفعال التي التزموا فيها صيغة المفعول لأنها في الأصل مسندة إلى فاعلٍ غير معلوم. وفسّره في «الصحاح» و«القاموس» بأنه الارتعاد من غضب أو خوف، وعلى الوجهين فجملة { يهرعون } حال. وقد طوى القرآن ذكر الغرض الذي جاؤوا لأجله مع الإشارة إليه بقوله { ومن قبل كانوا يعملون السيّئات } فقد صارت لهم دأباً لا يسعون إلاّ لأجله. وجملة { قال يا قوم } إلخ مستأنفة بيانياً ناشئاً عن جملة { وجاءه قومه } ، إذ قد علم السامع غرضهم من مجيئهم، فهو بحيث يسأل عمّا تلقّاهم به. وبادرهم لوط ـ عليه السّلام ـ بقوله { يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم }. وافتتاح الكلام بالنّداء وبأنّهم قومه ترقيق لنفوسهم عليه، لأنّه يعلم تصلبهم في عادتهم الفظيعة كما دلّ عليه قولهملقد علمتَ ما لنا في بناتك من حق } هود 79، كما سيأتي. والإشارة بـ { هؤلاء } إلى { بناتي }. و { بناتي } بدل من اسم الإشارة، والإشارة مستعملة في العَرض، والتقديرُ فخذوهن. وجملة { هنّ أطهر لكم } تعليل للعرض. ومعنى { هنّ أطهر } أنهنّ حلال لكم يَحُلْنَ بينكم وبين الفاحشة، فاسم التفضيل مسلوب المفاضلة قصد به قوّة الطهارة. و { هؤلاء } إشارة إلى جمع، إذ بُيّنَ بقوله { بناتي }. وقد رُويَ أنه لم يكن له إلاّ ابنتان، فالظّاهر أن إطلاق البنات هنا من قبيل التشبيه البليغ، أي هؤلاء نساؤهن كبناتي. وأراد نساءً من قومه بعدد القوم الذين جاءوا يُهرعون إليه. وهذا معنى ما فسر به مجاهد، وابن جبير، وقتادة، وهو المناسب لجعلهنّ لقومه إذ قال { هنّ أطهر لكم } ، فإن قومه الذين حضروا عنده كثيرون، فيكون المعنى هؤلاء النساء فتَزَوّجوهنّ. وهذا أحسن المحامل. وقيل أراد بنات صلبه، وهو رواية عن قتادة. وإذ كان المشهور أنّ لوطاً ـ عليه السّلام ـ له ابنتان صار الجمع مستعملاً في الاثنين بناء على أن الاثنين تعامل معاملة الجمع في الكلام كقوله تعالىفقد صَغَت قلوبكما } التحريم 4. وقيل كان له ثلاث بنات.

السابقالتالي
2