الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ قَالَ يٰقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةً مِّن رَّبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَن يَنصُرُنِي مِنَ ٱللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ }

جواب عن كلامهم فلذلك لم تعطف جملة { قال } وهو الشّأن في حكاية المحاورات كما تقدّم غير مرة. وابتداء الجواب بالنّداء لقصد التّنبيه إلى ما سيقوله اهتماماً بشأنه. وخاطبهم بوصف القوميّة له للغرض الذي تقدّم في قصة نوح. والكلام في قوله { أرأيتم إن كنت على بيّنة من ربّي وآتاني منه رحمة } كالكلام على نظيرها في قصة نوح. وإنّما يتّجه هنا أن يسأل عن موجب تقديم { منه } على { رحمة } هنا، وتأخيرمن عنده } هود 28 عنرحمة } هود 28 في قصة نوح السابقة. فالجواب لأنّ ذلك مع ما فيه من التّفنن بعدم التزام طريقة واحدة في إعادة الكلام المتماثل، هو أيضاً أسعد بالبيان في وضوح الدّلالة ودفع اللبس. فلمّا كان مجرور من الابتدائية ظرفاً وهو عند كان صريحاً في وصف الرّحمة بصفة تدلّ على الاعتناء الربّانيّ بها وبمَن أوتيَهَا. ولمّا كان المجرور هنا ضمير الجلالة كان الأحسن أن يقع عقب فعل { آتاني } ليكون تقييدُ الإيتاء بأنّه من الله مشير إلى إيتاء خاص ذي عناية بالمؤتى إذ لولا ذلك لكان كونه من الله تحصيلاً لما أفيد من إسناد الإيتاء إليه، فتعيّن أن يكون المراد إيتاءً خاصاً، ولو أوقع { منه } عقب { رحمة } لتوهّم السامع أنّ ذلك عوض عن الإضافة، أي عن أن يقال وآتاني رحمته، كقولهولنجعله آيةً للنّاس ورحمةً منا } مريم 21 أي ورحمتنا لهم، أي لنعظَهم ونرحَمَهم. وجملة { فمن ينصرني من الله } جواب الشرط وهو { إن كنت على بيّنة }. والمعنى إلزام وجدل، أي إن كنتم تنكرون نبوءتي وتوبّخونني على دعوتكم فأنا مؤمن بأنّي على بيّنة من ربّي، أفترون أنّي أعدل عن يقيني إلى شكّكم، وكيف تتوقّعون منّي ذلك وأنتم تعلمون أنّ يقيني بذلك يجعلني خائفاً من عذاب الله إن عصيته ولا أحد ينصرني. والكلام على قوله { مَنْ ينصرني من الله إن عصيته } كالكلام على قولهمن ينصرني من الله إن طردتهم } هود 30 في قصة نوح. وفُرع على الاستفهام الإنكاري جملة { فما تزيدونني غيرَ تخسير } أي إذ كان ذلك فما دعاؤكم إيّاي إلا سعي في خسراني. والمراد بالزيادة حدوث حال لم يكن موجوداً لأنّ ذلك زيادة في أحوال الإنسان، أي فما يحدث لي إن اتّبعتُكم وعصيتُ الله إلاّ الخسرانُ، كقوله تعالى حكاية عن نوح ـ عليه السّلام ـفلم يزدهم دعائي إلاّ فِرارا } نوح 6، أي كنت أدعوهم وهم يسمعون فلمّا كرّرت دعوتهم زادوا على ما كانوا عليه ففرُّوا، وليس المعنى أنّهم كانوا يفرّون فزادوا في الفرار لأنّه لو كان كذلك لقيل هنالك فلم يزدهم دعائي إلاّ من فرار، ولقيل هنا فما تزيدونني إلاّ من تخسير. والتّخسير، مصدر خسر، إذا جعله خاسراً.