الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ وَٱتَّبَعُوۤاْ أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ } * { وَأُتْبِعُواْ فِي هَـٰذِهِ ٱلدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ أَلاۤ إِنَّ عَاداً كَفَرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْداً لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ }

الإشارة بـ { تِلك } حاضر في الذّهن بسبب ما أجري عليه من الحديث حتى صار كأنّه حاضر في الحسّ والمشاهدة. كقوله تعالىتلك القرى نقصّ عليك من أنبائها } الأعراف 101 وكقولهأولئك على هدىً من ربّهم } البقرة 5، وهو أيضاً مثله في أنّ الإتيان به عقب الأخبار الماضية عن المشار إليهم للتنبيه على أنّهم جديرون بما يأتي بعد اسم الإشارة من الخبر لأجل تلك الأوصاف المتقدّمة. وتأنيث اسم الإشارة بتأويل الأمّة. و { عاد } بيان من اسم الإشارة. وجملة { جحدوا } خبر عن اسم الإشارة. وهو وما بعده تمهيد للمعطوف وهو { وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة } لزيادة تسجيل التّمهيد بالأجرام السّابقة، وهو الذي اقتضاه اسم الإشارة كما تقدّم، لأنّ جميع ذلك من أسباب جمع العذابين لهم. والجحد الإنكار الشّديد، مثل إنكار الواقعات والمشاهدات. وهذا يدلّ على أنّ هوداً أتاهم بآيات فأنكروا دلالتها. وعدي { جَحدوا } بالباء مع أنّه متعدّ بنفسه لتأكيد التّعدية، أو لتضمينه معنى كفروا فيكون بمنزلة ما لو قيل جحدوا آيات ربّهم وكفروا بها، كقولهوجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم } النمل 14. وجمع الرسل في قوله { وعصَوا رُسلَه } وإنّما عَصَوْا رَسولاً واحداً، وهو هود ـ عليه السّلام ـ لأنّ المراد ذكر إجرامهم فناسب أن يناط الجرم بعصيان جنس الرسل لأن تكذيبهم هوداً لم يكن خاصاً بشخصه لأنهم قالوا لهوما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك } هود 53، فكل رسول جاء بأمر ترك عبادة الأصنام فهم مكذبون به. ومثله قوله تعالىكذّبت عادٌ المرسلين } الشعراء 123. ومعنى اتباع الآمر طاعة ما يأمرهم به، فالاتّباع تمثيل للعمل بما يملى على المتبع، لأنّ الآمر يشبه الهادي للسائر في الطريق، والممتثلَ يشبه المتبع للسائر. والجبار المتكبّر. والعنيد مبالغة في المعاندة. يقال عند ـ مثلث النون ـ إذا طغى، ومن كان خلقه التجبّر، والعنود لا يأمر بخير ولا يدعو إلاّ إلى باطل، فدلّ اتّباعهم أمر الجبابرة المعاندين على أنّهم أطاعوا دعاة الكفر والضلال والظلم. و { كل } من صيغ العموم، فإنْ أريد كلّ جبار عنيد من قومهم فالعموم حقيقي، وإنْ أريد جنس الجبابرة فـ { كلّ } مستعملة في الكثرة كقول النابغة
بها كلّ ذَيّال وخنساءَ ترعوي   
ومنه قوله تعالىيأتوك رجالاً وعلى كلّ ضامرٍ } في سورة الحج 27. وإتْباع اللعنة إيّاهم مستعار لإصابتها إيّاهم إصابة عاجلة دون تأخير كما يتبع الماشي بمن يلحقه. وممّا يزيد هذه الاستعارة حسناً ما فيها من المشاركة ومن مماثلة العقاب للجرم لأنّهم اتّبعوا الملعونين فأتبعوا باللّعنة. وبني فعل { أتبعوا } للمجهول إذْ لاَ غرض في بيان الفاعل، ولم يسند الفعل إلى اللعنة مع استيفائه ذلك على وجه المجاز ليدل على أنّ إتْبَاعها لهم كان بأمر فاعل للإشعار بأنّها تبعتهم عقاباً من الله لا مجرّد مصادفة. واللّعنة الطرد بإهانة وتحقير.

السابقالتالي
2