الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ }

حُول أسلوب الكلام عن مخاطبة النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ بما أمر بتبليغه إلى إعلامه بحال من أحوال الذين أمر بالتبليغ إليهم في جهلهم بإحاطة علم الله تعالى بكل حال من الكائنات من الذوات والأعمال ظاهرها وخفيها، فقدم لذلك إبطال وهَم من أوْهام أهل الشرك أنهم في مكنة من إخفاء بعض أحوالهم عن الله تعالى، فكان قوله { ألا إنهم يثنون صدورهم } إلخ تمهيداً لقوله { يعلم ما يسرّون وما يعلنون إنه عليم بذات الصدور } ، جمعاً بين إخبارهم بإحاطة علم الله بالأشياء وبين إبطال توهماتهم وجهلهم بصفات الله. وقد نشأ هذا الكلام عن قوله تعالىإلى الله مرجعكم وهو على كل شيء قدير } هود 4 لمناسبة أن المرجوع إليه لما كان موصوفاً بتمام القدرة على كل شيء هو أيضاً موصوف بإحاطة علمه بكل شيء للتلازم بين تمام القدرة وتمام العلم. وافتتاح الكلام بحرف التنبيه { ألا } للاهتمام بمضمونه لغرابة أمرهم المحكي وللعناية بتعليم إحاطة علم الله تعالى. وضمائر الجماعة الغائبين عائدة إلى المشركين الذين أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالإبلاغ إليهم في قولهأنْ لا تعبدوا إلا الله } هود 2 وليس بالتفات. وضمائر الغيبة للمفرد عائدة إلى اسم الجلالة في قولهإلى الله مرجعكم } هود 4. والثّنْي الطّيُّ، وأصل اشتقاقه من اسم الاثنين. يقال ثَنَاه بالتخفيف، إذا جعله ثانياً، يقال هذا وَاحد فاثْنِه، أي كن ثانياً له، فالذي يطوي الشيء يجعل أحد طاقيه ثانياً للذي قبلَه فثنيُ الصدور إمالتها وحَنيها تشبيهاً بالطي. ومعنى ذلك الطأطأة. وهذا الكلام يحتمل الإجراءَ على حقيقة ألفاظه من الثني والصدور. ويحتمل أن يكون تمثيلاً لهيئة نفسية بهيئة حسية. فعلى الاحتمال الأول يكون ذلك تعجيباً من جهالة أهل الشرك إذ كانوا يقيسون صفات الله تعالى على صفات الناس فيحسبون أن الله لا يطلع على ما يحجبونه عنه. وقد روي أن الآية أشارت إلى ما يفعله المشركون أن أحدهم يدخل بيته ويرخي الستر عليه ويستغشي ثوبه ويحني ظهره ويقول هل يعلم الله ما في قلبي؟ وذلك من جهلهم بعظمة الله. ففي «البخاري» عن ابن مسعود اجتمع عند البيت قريشيان وثقفي، كثيرة شحم بطونهم قليلة فقه قلوبهم، فقال أحدهم أترون أن الله يسمع ما نقول؟ قال الآخر يسمع إن جهرنا ولا يسمع إن أخفينا. وقال الآخر إن كان يسمع إذا جهرنا فإنه يسمع إذا أخفينا. فأنزل الله تعالىوما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيراً مما تعملون وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين } فصلت 22، 23. وجميع أخطاء أهل الضلالة في الجاهلية والأديان الماضية تسري إلى عقولهم من النظر السقيم، والأقيسة الفاسدة، وتقدير الحقائق العالية بمقادير متعارفهم وعوائدهم، وقياس الغائب على الشاهد.

السابقالتالي
2 3