الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ قِيلَ يٰنُوحُ ٱهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَىٰ أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ }

فصلت الجملة ولم تعطف لوقوعها في سياق المحاورة بين نوح - عليه السّلام - وربّه، فإنّ نوحاً - عليه السّلام - لما أجاب بقولهربّ إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم } هود 47 إلى آخره خاطبه ربه إتماماً للمحاورة بما يسكّن جأشهُ. وكان مقتضى الظاهر أن يقول قال يا نوح اهبط، ولكنه عدل عنه إلى بناء الفعل للنائب ليجيء على وتيرة حكاية أجزاء القصة المتقدمة من قولهوقيل يا أرض ابلعي... وقيل بعداً للقوم الظالمين } هود 44 فحصل بذلك البناء قضاء حق الإشارة إلى جزء القصة، كما حصل بالفصل قضاء حق الإشارة إلى أن ذلك القول جزء المحاورة. ونداء نوح - عليه السّلام - للتنويه به بين الملأ. والهبوط النزول. وتقدم في قولهاهبطوا مصراً } في سورة البقرة 61. والمراد النزول من السفينة لأنّها كانت أعلى من الأرض. والسّلام التحيّة، وهو مما يخاطب بها عند الوداع أيضاً، يقولون اذهب بسلام، ومنه قول لبيد
إلى الحول ثم اسْم السلام عليكما   
وخطابه بالسلام حينئذٍ إيماء إلى أنه كان في ضيافة الله تعالى لأنه كان كافلاً له النجاة، كما قال تعالىوحملناه على ذَات ألواحٍ ودُسرٍ تجري بأعيننا } القمر 13، 14. وأصْل السّلام السّلامة، فاستعمل عند اللقاء إيذاناً بتأمين المرء ملاقيه وأنّه لا يضمر له سوءاً، ثم شاع فصار قولاً عند اللقاء للإكرام. وبذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم الذين قالوا السّلام على الله، فقوله هنا { اهبط بسلام } نظير قولهادخلوها بسلام آمنين } الحجر 46 فإن السلام ظاهر في التحية لتقييده بـآمنين. ولو كان السّلام مراداً به السلامة لكان التقييد ب-آمنين توكيداً وهو خلاف الأصل. و { منا } تأكيد لتوجيه السّلام إليه لأنّ من ابتدائية، فالمعنى بسلام ناشىء من عندنا، كقولهسلامٌ قولاً من ربٍ رحيمٍ } يس 58. وذلك كثير في كلامهم. وهذا التأكيد يراد به زيادة الصلة والإكرام فهو أشدُّ مبالغة من الذي لا تذكر معه من. والباء للمصاحبة، أي اهبط مصحوباً بسلام منّا. ومصاحبة السّلام الذي هو التّحية مصاحبة مجازية. والبركات الخيرات النامية، واحدتها بركة، وهي من كلمات التحية مستعملة في الدعاء. ولما كان الداعون بلفظ التحيّة إنما يسألون الله بدعاء بعضهم لبعض فصدور هذا الدعاء من لدنه قائم مقام إجابة الدعاء فهو إفاضة بركات على نوح - عليه السّلام - ومن معه، فحصل بذلك تكريمهم وتأمينهم والإنعام عليهم. وعليك يتعلق بسلام وبركات وكذلك { وعلى أُمم ممن معك }. والأمم جمع أمة. والأمة الجماعة الكثيرة من الناس التي يَجمعها نسب إلى جدّ واحد. يقال أمّة العرب، أو لغةٌ مثل أمة الترك، أو موطن مثل أمة أمريكا، أو دين مثل الأمة الإسلامية، فـ { أمم } دال على عدد كثير من الأمم يكون بعد نوح - عليه السّلام -.

السابقالتالي
2