الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ٱبْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ ٱلْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ ٱلْحَاكِمِينَ } * { قَالَ يٰنُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّيۤ أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ ٱلْجَاهِلِينَ } * { قَالَ رَبِّ إِنِّيۤ أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِيۤ أَكُن مِّنَ ٱلْخَاسِرِينَ }

موقع الآية يقتضي أنّ نداء نوح - عليه السّلام - هذا كان بعد استواء السفينة على الجوديّ نداءً دَعاه إليه داعي الشفقة فأراد به نفع ابنه في الآخرة بعد اليأس من نجاته في الدّنيا، لأنّ الله أعلمه أنّه لا نجاة إلاّ للّذين يركبون السّفينة، ولأنّ نوحاً - عليه السّلام - لمّا دعا ابنه إلى ركوب السّفينة فأبى وجرت السفينة قد علم أنّه لا وسيلة إلى نجاته فكيف يسألها من الله فتعيّن أنّه سأل له المغفرة، ويدلّ لذلك قوله تعالى { فلا تسألنّي ما ليس لك به علم } كما سيأتي. ويجوز أن يكون دعاء نوح - عليه السّلام - هذا وقع قبل غرق النّاس، أي نادى ربّه أن ينجي ابنه من الغرق. ويجوز أن يكون بعد غرق من غرقوا، أي نادى ربّه أن يغفر لابنه وأن لا يعامله معاملة الكافرين في الآخرة. والنّداء هنا نداء دعاء فكأنّه قيل ودعا نوح ربّه، لأنّ الدعاء يصدّر بالنّداء غالباً، والتّعبير عن الجلالة بوصف الربّ مضافاً إلى نوح - عليه السلام - تشريف لنوح وإيماء إلى رأفة الله به وأن نهيه الوارد بعده نهيُ عتاب. وجملة { فقال ربّ إنّ ابني من أهلي } بيان للنّداء، ومقتضى الظّاهر أنْ لا تعطف بفاء التفريع كما لم يعطف البيان في قوله تعالىإذْ نادى ربّه نداءً خفيّاً قال ربّ إنّي وهن العظم مني } مريم 3، 4، وخولف ذلك هنا. ووجّه في «الكشاف» اقترانه بالفاء بأنّ فعل { نادى } مستعمل في إرادة النداء، أي مثل فعل قمتم في قوله تعالىيا أيهَا الّذينَ آمنوا إذَا قمْتم إلى الصّلاة فَاغْسلوا وجوهكم } المائدة 6 الآية، يريد أن ذلك إخراج للكلام على خلاف مقتضى الظاهر فإنّ وجود الفاء في الجملة التي هي بيان للنداء قرينة على أن فعل { نادى } مستعار لمعنى إرادة النداء، أي أراد نداءَ ربه فأعقب إرادته بإصدار النداء، وهذا إشارة إلى أنه أراد النداء فتردّد في الإقدام عليه لِما علم من قوله تعالىإلا من سبق عليه القول } هود 40 فلم يطل تردّده لمّا غلبته الشفقة على ابنه فأقدم على نداء ربه، ولذلك قدم الاعتذار بقوله { إنّ ابني من أهلي }. فقوله { إن ابني من أهلي } خبر مستعمل في الاعتذار والتمهيد لأنّه يريد أن يسأل سؤالاً لا يدري قبوله ولكنّه اقتحمه لأن المسؤول له من أهله فله عذر الشفقة عليه. وتأكيد الخبر بـ { إنّ } للاهتمام به. وكذلك جملة { وإنّ وعدك الحق } خبر مستعمل في لازم الفائدة. وهو أنّه يعلم أن وعد الله حق. والمراد بالوعد ما في قوله تعالىإلاّ من سبق عليه القول منهم ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون } المؤمنون 27 إذ أفاد ذلك أن بعض أهله قد سبق من الله تقدير بأنّه لا يركب السفينة.

السابقالتالي
2 3