الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَقِيلَ يٰأَرْضُ ٱبْلَعِي مَآءَكِ وَيٰسَمَآءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ ٱلْمَآءُ وَقُضِيَ ٱلأَمْرُ وَٱسْتَوَتْ عَلَى ٱلْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ ٱلظَّالِمِينَ }

لما أفاد قولهفكان من المغرقين } هود 43 وقوعَ الغرق الموعود به على وجه الإيجاز كما علمتَ انتقل الكلام إلى انتهاء الطوفان. وبناء فعل { قيل } للمفعول هنا اختصار لظهور فاعل القول، لأن مثله لا يصدر إلاّ من الله. والقول هنا أمر التكوين. وخطاب الأرض والسماء بطريقة النداء وبالأمر استعارة لتعلّق أمر التكوين بكيفيات أفعال في ذاتيهما وانفعالهما بذلك كما يخاطَب العاقل بعمل يعمله فيقبله امتثالاً وخشية. فالاستعارة هنا في حرف النداء وهي تبعيّة. والبلع حقيقته اجتياز الطعام والشراب إلى الحلق بدون استقرار في الفم. وهو هنا استعارة لإدخال الشيء في باطن شيء بسرعة، ومعنى بلع الأرض ماءها دُخوله في باطنها بسرعة كسرعة ازدراد البالع بحيث لم يكن جفاف الأرض بحرارة شمس أو رياح بل كان بعمل أرضي عاجل. وقد يكون ذلك بإحداث الله زلازل وخسفاً انشقت به طبقة الأرض في مواضع كثيرة حتى غارت المياه التي كانت على سطح الأرض. وإضافة { الماء } إلى الأرض لأدنى ملابسة لكونه في وجهها. وإقلاع السماء مستعار لكفّ نزول المطر منها لأنه إذا كَفّ نزولُ المطر لم يُخلف الماء الذي غار في الأرض، ولذلك قدّم الأمر بالبلْع لأنّه السبب الأعظم لغيض الماء. وفي قران الأرض والسماء محسّن الطباق، وفي مقابلة ابلعي بـ { أقلعي } محسّن الجناس. و { غيض الماء } مغن عن التعرُّض إلى كون السماء أقلعت والأرض بَلعت، وبنيَ فعل { غيض الماء } للنائب لمثل ما بني فعل { وقِيل } باعتبار سبب الغيض، أو لأنه لا فاعل له حقيقة لأن حصوله حصول مسبب عن سبب والغَيْض نضوبه في الأرض. والمراد الماء الذي نشأ بالطوفان زائداً على بحار الأرض وأوديتها. وقضاء الأمر إتمامه. وبناء الفعل للنائب للعلم بأنّ فاعله ليس غير الله تعالى. والاستواء الاستقرار. والجوديّ اسم جبل بين العراق وأرمينا، يقال له اليوم أرَارَاط. وحكمة إرسائها على جبل أنّ جانب الجبل أمكَن لاستقرار السفينة عند نزول الرّاكبين لأنّها تخف عندما ينزل معظمهم فإذا مالت استندت إلى حانب الجبل. و { بعداً } مصدر بعدَ على مثال كَرُم وفَرح، منصوب على المفعولية المطلقة. وهو نائب عن الفعل كما هو الاستعمال في مقام الدعاء ونحوه، كالمدح والذم مثل تَبّاً له، وسحقاً، وسَقْياً، ورَعْياً، وشكْراً. والبعد كناية عن التحقير بلازم كراهية الشيء، فلذلك يقال بَعِد أو نحوه لمن فُقِدَ، إذا كان مكروهاً كما هنا. ويقال نفي البعد للمرغوب فيه وإن كان قد بعد، فَيقَالُ للميّت العزيز كما قال مالك بن الرّيْب
يقولون لا تَبْعَدْ وهم يدفِنوني وأيْنَ مكانُ البعد إلاّ مَكانِيا   
وقالت فاطمة بنت الأَحْجَم
إخْوَتِي لا تَبْعَدُوا أبداً وبَلى والله قد بَعِدوا   
والأكثر أن يقال بعِد بكسر العين في البعد المجازي بمعنى الهلاك والموت، وبعُد المضموم العين في البعد الحقيقي.

السابقالتالي
2 3 4