الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ حَتَّىٰ إِذَا جَآءَ أَمْرُنَا وَفَارَ ٱلتَّنُّورُ قُلْنَا ٱحْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ ٱثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ ٱلْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَآ آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ }

{ حتى } غاية لـويصنع الفلك } هود 38 أي يصنعه إلى زمن مجيء أمرنا، فـ { إذا } ظرف مضمن معنى الشرط ولذلك جيء له بجواب. وهو جملة { قلنا احمل }. وجعل الشرط وجوابه غاية باعتبار ما في حرف الشرط من معنى الزمان وإضافته إلى جملة الشرط، فحصل معنى الغاية عند حصول مضمون جملة الجزاء، وهو نظم بديع بإيجازه. و { حتى } ابتدائية. والأمر هنا يحتمل أمْر التكوين بالطوفان، ويحتمل الشّأن وهو حادث الغرق، وإضافته إلى اسم الجلالة لتهويله بأنّه فوق ما يعرفون. ومَجيء الأمر حصوله. والفوران غليان القدر، ويطلق على نبع الماء بشدة، تشبيهاً بفوران ماء في القدر إذا غلي، وحملوه على ما جاء في آيات أخرى من قصة نوح ـ عليه السّلام ـ مثل قولهوفجّرنا الأرض عيوناً } القمر 12. ولذلك لم يتضح لهم إسناده إلى التنور، فإن التنور هو الموقد الذي ينضج فيه الخبز، فكثرت الأقوال في تفسير التنور، بلغت نسبة أقوال منها ما لا ينبغي قبوله. ومنها ما له وجه وهو متفاوت. فمن المفسرين من أبقى التنور على حقيقته، فجعل الغوران خروج الماء من أحد التنانير وأنه علامة جعلها الله لنوح ـ عليه السّلام ـ إذ أفار الماء من تنوره علم أن ذلك مبدأ الطوفان فركِب الفلكَ وأركبَ من معه. ومنهم من حمل التنور على المَجاز المفرد ففسره بسطح الأرض، أي فار الماء من جميع الأرض حتى صار بسطح الأرض كفوهة التنور. ومنهم من فسره بأعلى الأرض. ومنهم من حمل { فار } و { التنور } على الحقيقة، وأخرج الكلام مَخرج التمثيل لاشتداد الحال، كما يقال حمي الوطيس. وقع حكاية ذلك في تفسير ابن عطية في هذه الآية وفي الكشاف في تفسير سورة المؤمنون وأنشد الطبرسي قول الشاعر. وهو النابغة الجعدي
تفورُ علينا قِدرهم فنديمها ونفثأها عنّا إذا قِدرها غلى   
يريد بالقدر الحرب، ونفثأها، أي نسكنها، يقال فثأ القِدر إذا سكن غليانها بصب الماء فيها. وهذا أحسن ما حكي عن المفسرين. والذي يظهر لي أن قوله { وفارَ التنور } مثَل لبلوغ الشيء إلى أقصَى ما يتحمل مثله، كما يقال بلغ السيل الزُبى، وامتلأ الصاع، وفاضت الكأس وتفاقم. والتنور محفل الوادي، أي ضفته، فيكون مثل طَما الوادي من قبيل بلغ السيل الزُبى. والمعنى بأن نفاذ أمرنا فيهم وبلغوا من طول مدة الكفر مبلغاً لا يغتفر لهم بعدُ كما قال تعالىفلما آسفونا انتقمنا منهم } الزخرف 55. والتنور اسم لمَوقد النار للخبز. وزعمه. الليث مما اتفقت فيه اللغات، أي كالصابون والسمور. ونسب الخفاجي في شفاء الغليل هذا إلى ابن عباس. وقال أبو منصور كلام الليث يدل على أنه في الأصل أعجمي. والدليل على ذلك أنه فعّول من تنر ولا نعرف تنر في كلام العرب لأنه مهمل، وقال غيره ليس في كلام العرب نون قبل رَاء فإن نرجس معرب أيضاً.

السابقالتالي
2