الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ ٱللَّهِ وَلاَ أَعْلَمُ ٱلْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِيۤ أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ ٱللَّهُ خَيْراً ٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِيۤ أَنْفُسِهِمْ إِنِّيۤ إِذاً لَّمِنَ ٱلظَّٰلِمِينَ }

هذا تفصيل لما ردّ به مقالة قومه إجمالاً، فهم استدلوا على نفي نبُوّته بأنهم لم يروا له فضلاً عليهم، فجاء هو في جوابهم بالقول بالموجَب أنه لم يدع فضلاً غير الوحي إليه كما حكى الله عن أنبيائه ـ عليهم السّلام ـ في قولهقالت لهم رسلهم إن نحن إلاّ بشر مثلكم ولكن الله يمنّ على من يشاء من عباده } إبراهيم 11، ولذلك نفى أن يكون قد ادّعى غير ذلك. واقتصر على بعض ما يتوهّمونه من لوازم النبوءة وهو أن يكون أغنى منهم، أو أن يعلم الأمور الغائبة. والقول بمعنى الدعوى، وإنما نفى ذلك بصيغة المضارع للدّلالة على أنّه منتف عنه ذلك في الحال، فأما انتفاؤه في الماضي فمعلوم لديهم حيث لم يقله، أي لا تظنوا أني مضمر ادّعاء ذلك وإن لم أقله. والخزائن جمع خِزانة ـ بكسر الخاء ـ وهي بيت أو مِشكاة كبيرة يجعل لها باب، وذلك لِخزن المال أو الطعام، أي حفظه من الضياع. وذكر الخزائن هنا استعارة مكنية شبهت النعم والأشياء النافعة بالأموال النفيسة التي تُدخر في الخزائن، ورمز إلى ذلك بذكر ما هو من روادف المشبّه به وهو الخزائن. وإضافة { خزائن } إلى { الله } لاختصاص الله بِها. وأما قوله { ولا أقول إني ملك } فنفي لشبهة قولهمما نراك إلاّ بشراً مثلنا } هود 27 ولذلك أعاد معه فعل القول، لأنه إبطال دعوى أخرى ألصقوها به، وتأكيده بـإنّ لأنه قول لا يقوله قائله إلا مؤكداً لشدة إنكاره لو ادعاه مدّع، فلما نفاه نفى صيغة إثباته. ولمّا أراد إبطال قولهموما نراك اتّبعك إلاّ الذين هم أراذلنا } هود 27 أبطله بطريقة التغليط لأنهم جعلوا ضعفهم وفقرهم سبباً لانتفاء فضلهم، فأبطله بأن ضعفهم ليس بحائل بينهم وبين الخير من الله إذ لا ارتباط بين الضعف في الأمور الدنيوية من فقر وقلة وبين الحرمان من نوال الكمالات النفسانية والدينية، وأعاد معه فعل القول لأنه أراد من القول معنى غيرَ المراد منه فيما قيل، فالقول هنا كناية عن الاعتقاد لأن المرء إنما يقول ما يعتقد، وهي تعريضية بالمخاطبين لأنهم يضمون ذلك ويقدرونه. والازدراء افتعال من الزري وهو الاحتقار وإلصاق العيب، فأصله ازتراء، قلبت تاء الافتعال دالاً بعد الزاي كما قلبت في الازدياد. وإسناد الازدراء إلى الأعين وإنما هو من أفعال النفس مجاز عقلي لأن الأعين سبب الازدراء غالباً، لأن الازدراء ينشأ عن مشاهدة الصفات الحقيرة عند الناظر. ونظيره إسناد الفرق إلى الأعين في قول الأعشى
كذلك فافعل ما حييت إذا شتَوْا وأقدم إذا ما أعينُ الناس تَفرَقُ   
ونظيره قوله تعالىسَحروا أعْينَ الناس } الأعراف 116 وإنما سحروا عقولهم ولكن الأعين ترى حركات السحرة فتؤثر رؤيتها على عقول المبصرين.

السابقالتالي
2