الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ أُولَـٰئِكَ لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ فِي ٱلأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ مِنْ أَوْلِيَآءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ ٱلْعَذَابُ مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ ٱلسَّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ }

{ أُولَـٰئِكَ لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ فِى ٱلأَرْضِ }. استئناف بياني ناشىء عن الاقتصار في تهديدهم على وصف بعض عقابهم في الآخرة فإنّ ذلك يثير في نفس السامع أن يسأل هل هم سالمون من عذاب الدنيا. فأجيب بأنهم لم يكونوا معجزين في الدنيا، أي لا يخرجون عن مقدرة الله على تعذيبهم في الدنيا إذا اقتضت حكمته تعجيل عذابهم. وإعادة الإشارة إليهم بقوله أولئك بعد أن أشير إليهم بقولهأولئك يعرضون على ربهم } هود 18 لتقرير فائدة اسم الإشارة السابق. والمعنى أنهم يصيرون إلى حكم ربهم في الآخرة ولم يكونوا معجزيه أن يعذبهم في الدنيا متى شاء تعذيبهم ولكنه أراد إمهالهم. والمعجز هنا الذي أفلت ممّن يروم إضراره. وتقدم بيانه عند قوله تعالىإن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين } في سورة الأنعام 134. والأرض الدنيا. وفائدة ذكره أنهم لا ملجأ لهم من الله لو أراد الانتقام منهم فلا يجدون موضعاً من الأرض يستعصمون به. فهذا نفي للملاجيء والمعاقل التي يستعصم فيها الهارب. وعندي أنّ مقارنة في الأرض بـمعجزين جَرى مجرى المثل في القرآن كما في قوله تعالىومن لا يجب داعي الله فليس بمعجزٍ في الأرض } الأحقاف 32 ولعله مما جرى كذلك في كلام العرب كما يؤذن به قول إياس بن قبيصة الطائي من شعراء الجاهلية
ألم تر أن الأرض رحب فسيحة فهل تعجزني بقعة من بقاعها   
{ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ مِنْ أَوْلِيَآءَ } يجوز أن يكون المراد بالأول الأنصار، أي ما لهم ناصر ينصرهم من دون الله. فجمع لهم نفي سببي النجاة من عذاب القادر وهما المكان الذي لا يصل إليه القادر أو معارضة قادر آخر إياه يمنعه من تسليط عقابه. و { مِن دون الله } متعلق بـأولياء لما في الولي هنا من معاني الحائل والمباعد بقولهومن يتخذ الشيطان ولياً من دون الله فقد خسر خسراناً مبيناً } النساء 119. ويجوز أن يراد بالأولياء الأصنام التي تَولوْها، أي أخلصوا لها المحبة والعبادة. ومعنى نفي الأولياء عنهم بهذا المعنى نفي أثر هذا الوصف، أي لم تنفعهم أصنامهم وآلهتهم. و { من دون الله } على هذا الوجه بمعنى من غير الله، فـدون اسم غير ظرف، ومن الجارّة لـدون زائدة تزاد في الظروف غير المتصرفة، ومن الجارة لـأولياء زائدة لاستغراق الجنس المنفي، أي ما كان لهم فرد من أفراد جنس الأولياء. والعذاب المضاعف هو عذاب الآخرة بقرينة قوله { لم يكونوا معجزين في الأرض } المشعر بتأخير العذاب عنهم في الدنيا لاَ عنْ عجز. خبر عن اسم الإشارة. ويجوز أن تكون جملة { لم يكونوا معجزين في الأرض } خبراً أوّلاً وجملة { يضاعف } خبراً ثانياً. ويجوز أن تكون جملة { لم يكونوا معجزين } حالاً وجملة { يضاعف } خبراً أول.

السابقالتالي
2