الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ أَفَمَن كَانَ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَىٰ إِمَاماً وَرَحْمَةً أُوْلَـٰئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ ٱلأَحْزَابِ فَٱلنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ إِنَّهُ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ }

{ أَفَمَن كَانَ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَىٰ إَمَامًا وَرَحْمَةً أُوْلَـٰئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ ٱلأَحْزَابِ فَٱلنَّارُ مَوْعِدُهُ }. أغلقت معاني هذه الآية لكثرة الاحتمالات التي تعتورها من جهة معاد الضمائر واسم الإشارة، ومن جهة إجمال المراد من الموصول، وموقع الاستفهام، وموقع فاء التفريع. وقد حكى ابن عطية وجوهاً كثيرة في تفسيره بما لم يلخصه أحد مثله وتبعه القرطبي في حكاية بعضها. والاختلاف في مَاصدق { مَن كان على بينة من ربّه }. وفي المراد من { بينة من ربه } ، وفي المعنّي بـ { يتلوه }. وفي المراد من { شاهد }. وفي معاد الضمير المنصوب في قوله { يتلوه }. وفي معنى منْ من قوله { منه } ، وفي معاد الضمير المجرور بـمِن. وفي موقع قوله { مِن قبله } من قوله { كتاب موسى }. وفي مرجع اسم الإشارة من قوله { أولئك يؤمنون به }. وفي معاد الضمير المجرور بالباء من قوله { يؤمنون به ومن يكفر به من الأحزاب } الخ فهذه مفاتيح تفسير هذه الآية. والذي تخلّص لي من ذلك ومما فتح الله به مما هو أوضح وجْهاً وأقرب بالمعنى المقصود شِبْهاً أن الفاء للتفريع على جملةأم يقولون افتراه } هود 13 إلى قولهفهل أنتم مسلمون } هود 14 وأن ما بينهما اعتراض لتقرير توغلهم في المكابرة وابتعادهم عن الإيمان، وهذا التفريع تفريع الضدّ على ضده في إثبات ضد حكمه له، أي إن كان حال أولئك المكذبين كما وُصف فثَمّ قوم هم بعكس حالهم قد نفعتهم البيّنات والشواهد، فهم يؤمنون بالقرآن وهم المسلمون وذلك مقتضى قولهفهل أنتم مسلمون } هود 14، أي كما أسلم من كانوا على بيّنة من ربهم منكم ومن أهل الكتاب. والهمزة للاستفهام التقريري، أي إن كفر به هؤلاء أفيُؤمِنُ به من كان على بينة من ربه، وهذا على نحو نظم قوله تعالىأفمن حَق عليه كلمة العذاب أفأنت تُنقذ مَن في النّار } الزمر 19 أي أنت تنقذ من النار الذي حق عليه كلمة العذاب. و { مَن كان على بيّنة } لا يراد بها شخص معيّن. فكلمة مَن هنا تكون كالمعرّف بلام العهد الذهني صادقة على من تحققت له الصلة، أعني أنه على بينة من ربه. وبدون ذلك لا تستقيم الإشارة. وإفراد ضمائر { كان على بيّنة من ربه } مراعاةٌ للفظ مَن الموصولة وذلك أحد استعمالين. والجمع في قوله { أولئك يؤمنون } مراعاة لمعنى مَن الموصولة وذلك استعمال آخر. والتقدير أفمن كانوا على بينة من ربهم أولئك يؤمنون به. ونظير هذه الآية قوله تعالىأفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله واتبعوا أهواءهم } في سورة القتال 14. والذين هم على بينة من ربهم يجوز أن يكونوا النصارى فقط فإنهم كانوا منتشرين في العرب ويعرف أهل مكة كثيراً منهم، وهم الذين عرفوا أحقية الإسلام مثل ورقة بن نوفل ودحية الكلبي، ويجوز أن يراد النصارى واليهود مثل عبد الله بن سلام ممّن آمن بعد الهجرة فدلوا على تمكنهم من معرفة البينة لصحة أفهامهم ولوضوح دلالة البيّنة، فأصحابها مؤمنون بها.

السابقالتالي
2 3 4