الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَىٰ إِلَيْكَ وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَن يَقُولُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَآءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَآ أَنتَ نَذِيرٌ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ }

تفريع على قولِهوَلَئِنْ قُلْت إنّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْد الْمَوْت } هود 7 إلَى قولهيَسْتَهْزئُون } هود 8 مِن ذكر تكذيبهم وعنادهم. يشير هذا التّفريع إلى أنّ مضمون الكلام المفرع عليه سبب لتوجيه هذا التوقع لأنّ من شأن المفرع عليه اليأس من ارعوائهم لتكرر التكذيب والاستهزاء يأساً قد يَبْعَثُ على ترك دعائهم، فذلك كله أفيد بفاء التفريع. والتوقع المستفاد من لعل مستعمل في تحذير من شأنه التبليغ. ويجوز أن يقدّر استفهام حذفت أداته. والتقدير ألَعَلّكَ تارك. ويكون الاستفهام مستعملاً في النفي للتحذير، وذلك نظير قوله تعالىلَعَلّكَ بَاخِعٌ نفسك ألاّ يكونوا مؤمنين } الشعراء 3. والاستفهام كناية عن بلوغ الحالة حداً يوجِبُ توقع الأمر المستفهَم عنه حتى أنّ المتكلّم يستفهم عن حصوله. وهذا أسلوب يقصد به التحريك من همة المخاطب وإلهابُ همته لدفع الفتور عنه، فليس في هذا تجويز ترك النّبيّء صلى الله عليه وسلم تبليغ بعض ما يوحى إليه، وذلك البعض هو مّا فيه دعوتهم إلى الإيمان وإنذارهم بالعذاب وإعلامهم بالبعث كما يدل عليه قوله تعالى في آية أخرىوإذَا لَمْ تَأتِهِمْ بِآيَةٍ قَالوا لَوْلاَ اجْتَبَيْتهَا } الأعراف 203. والمعنى تحذيره من التأثّر بعنادهم وتكذيبهم واستهزائهم، ويستتبع ذلك تأييسَ المشركين من تركه ذكر البعث والإنذار بالعذاب، فالخطاب مستعمل في حقيقته ومراد منه مع ذلك علم السامعين بمضمونه. { وضائق } اسم فاعل من ضاق. وإنما عدل عن أن يقال ضيّق هنا إلى { ضائق } لمراعاة النظير مع قوله تارك لأنّ ذلك أحسن فصاحة. ولأنّ { ضائق } لاَ دَلالَة فيه على تمكّن وصف الضّيْق من صدره بخلاف ضيّق، إذ هو صفة مشبهة وهي دالة على تمكن الوصف من الموصوف، إيماء إلى أنّ أقْصَى ما يتوهّم توقعه في جانبه صلى الله عليه وسلم هو ضَيْق قليل يعرض له. والضيق مستعمل مجازاً في الغم والأسف، كما استعمل ضده وهو الانشراح في الفرح والمسرة. و { ضائق } عطف على { تارك } فهو وفاعله جملة خبر عن لعلّك فيتسلط عليه التفريع. والباء في { بِه } للسببية، والضمير المجرور بالباء عائد على ما بعده وهو { أن يقولوا }. و { أن يقولوا } بدل من الضمير. ومثل ذلك مستعمل في الكلام كقوله تعالىوأسروا النّجْوَى الّذينَ ظَلَموا } الأنبياء 3، فيكون تحذيراً من أن يضيق صدره لاقتراحهم الآيات بأن يقولوا { لولا أنزل عليه كنزٌ أو جاء معه ملكٌ } ، ويحصل مع ذلك التحذير من أن يضيق صدره من قولهمإن هذا إلاّ سِحْرٌ مبِين } هود 7، ومن قولهم ما يَحْبس العذاب عنا، بواسطة كون { ضائق } داخلاً في تفريع التحذير على قولَيْهم السّابقَيْن. وإنما جيء بالضمير ثم أبدل منه لقصد الإجمال الذي يعقبه التفصيل ليكون أشد تمكّناً في الذهن، ولقصد تقديم المجرور المتعلق باسم الفاعل على فاعله تنبيهاً على الاهتمام بالمتعلّق لأنّه سبب صدور الفعل عن فاعله فجيء بالضمير المفسر فيما بعدُ لما في لفظ التفسير من الطول، فيحصل بذكره بُعد بين اسم الفاعل ومرفوعه، فلذلك اختصر في ضمير يعود عليه، فحصَل الاهتمام وقُوّيَ الاهتمام بما يدل على تمكنه في الذهن.

السابقالتالي
2