الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَأَقِمِ ٱلصَّلاَةَ طَرَفَيِ ٱلنَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ ٱلَّيْلِ إِنَّ ٱلْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ ٱلسَّـيِّئَاتِ ذٰلِكَ ذِكْرَىٰ لِلذَّاكِرِينَ }

انتقل من خطاب المؤمنين إلى خطاب النّبي صلى الله عليه وسلم وهذا الخطاب يتناول جميع الأمّة بقرينة أنّ المأمور به من الواجبات على جميع المسلمين، لا سيما وقد ذكر معه ما يناسب الأوقات المعيّنة للصلوات الخمس، وذلك ما اقتضاه حديث أبي اليُسْر الآتي. وطرف الشيء منتهاه من أوّله أو من آخره، فالتثنية صريحة في أنّ المراد أوّل النّهار وآخره. و { النّهار } ما بين الفجر إلى غروب الشمس، سمي نهاراً لأنّ الضياء ينهر فيه، أي يبرز كما يبرز النهْر. والأمر بالإقامة يؤذن بأنّه عمل واجب لأنّ الإقامة إيقاع العمل على ما يستحقه، فتقتضي أنّ المراد بالصّلاة هنا الصلاة المفروضة، فالطّرفان ظَرْفان لإقامة الصّلاة المفروضة، فعلم أن المأمور إيقاع صلاة في أوّل النّهار وهي الصّبح وصلاة في آخره وهي العصر وقيل المغرب. والزُلَف جمع زُلْفة مثل غُرْفة وغُرَف، وهي السّاعة القريبة من أختها، فعلم أن المأمور إيقاع الصلاة في زلف من اللّيل، ولمّا لم تعيّن الصلوات المأمور بإقامتها في هذه المدّة من الزمان كان ذلك مجملاً فبينته السنةُ والعملُ المتواتر بخمس صلوات هي الصبح والظهر والعصر والمغرب والعشاء، وكان ذلك بيَاناً لآيات كثيرة في القرآن كانت مجملة في تعيين أوقات الصلوات مثل قوله تعالىأقم الصّلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إنّ قرآن الفجر كان مشهودا } الإسراء 78 والمقصود أن تكون الصّلاة أول أعمال المُسلم إذا أصبح وهي صلاة الصبح وآخر أعماله إذا أمسى وهي صلاة العشاء لتكون السيّئات الحاصلة فيما بيْن ذلك ممحوة بالحسنات الحافّة بها. وهذا مشير إلى حكمة كراهة الحديث بعد صلاة العشاء للحثّ على الصّلاة وخاصة ما كان منها في أوقات تعرض الغفلة عنها. وقد ثبت وجوبهما بأدلّة أخر وليس في هذه الآية ما يقتضي حصر الوجوب في المذكور فيها. وجملة { إنّ الحسنات يذهبن السّيئات } مسوقة مساق التّعليل للأمر بإقامة الصّلوات، وتأكيد الجملة بحرف { إنّ } للاهتمام وتحقيق الخبر. و { إنّ } فيه مفيدة معنى التّعليل والتفريع، وهذا التعليل مؤذن بأنّ الله جعل الحسنات يذهبن السيّئات، والتّعليل مشعر بعموم أصحاب الحسنات لأنّ الشأن أن تكون العلّة أعم من المعلول مع ما يقتضيه تعريف الجمع باللاّم من العموم. وإذهاب السيّئات يشمل إذهاب وقوعها بأن يصير انسياق النّفس إلى ترك السيّئات سَهْلاً وهيّناً كقوله تعالىإنّ الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر } العنكبوت 45 ويكون هذا من خصائص الحسنات كلّها. ويشمل أيضاً محو إثمها إذا وقعت، ويكون هذا من خصائص الحسنات كلّها فضلاً من الله على عباده الصالحين. ومحمل السيّئات هنا على السيّئات الصغائر التي هي من اللّمم حملاً لمطلق هذه الآية على مقيد آيةالذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلاّ اللّمَم }

السابقالتالي
2