الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ فَٱسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }

{ فَٱسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ }. ترتب عن التسلية التي تضمّنها قولهولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه } هود 110 وعن التثبيت المفاد بقولهفلا تك في مرية ممّا يَعبد هؤلاء } هود 109 الحضّ على الدّوام على التمسك بالإسلام على وجه قويم. وعبّر عن ذلك بالاستقامة لإفادة الدّوام على العمل بتعاليم الإسلام، دواماً جماعهُ الاستقامة عليه والحذر من تغييره. ولمّا كان الاختلاف في كتاب موسى ـ عليه السّلام ـ إنّما جاء من أهل الكتاب عطف على أمر النّبيء صلى الله عليه وسلم بالاستقامة على كتابه أمرُ المؤمنين بتلك الاستقامة أيضاً، لأنّ الاعوجاج من دواعي الاختلاف في الكتاب بنهوض فرق من الأمة إلى تبديله لمجاراة أهوائهم، ولأنّ مخالفة الأمّة عمداً إلى أحكام كتابها إن هو إلاّ ضرب من ضروب الاختلاف فيه، لأنّه اختلافها على أحكامه. وفي الحديث " فإنّما أهلكَ الذين من قبلكم كثرةُ مسائلهم واختلافُهم على أنبيائهم " ، فلا جرم أن كانت الاستقامة حائلاً دون ذلك، إذ الاستقامة هي العمل بكمال الشريعة بحيث لا ينحرف عنها قِيد شبر. ومتعلقها العمل بالشريعة بعد الإيمان لأنّ الإيمان أصل فلا تتعلّق به الاستقامة. وقد أشار إلى صحّة هذا المعنى " قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبِي عَمْرَةَ الثقفي لمّا قال له «يا رسول الله قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً غيرك. قال قل آمنت بالله ثم استَقِمْ» " فجعل الاستقامة شيئاً بعد الإيمان. ووُجّه الأمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم تنويهاً بشأنه ليبني عليه قوله { كما أمرتَ } فيشير إلى أنّه المتلقّي للأوامر الشرعيّة ابتداء. وهذا تنويه له بمقام رسالته، ثم أُعلم بخطاب أمّته بذلك بقوله { ومن تاب معك }. وكاف التّشبيه في قوله { كما أمرت } في موضع الحال من الاستقامة المأخوذة من استقم. ومعنى تشبيه الاستقامة المأمور بها بما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم لكون الاستقامة مماثلة لسائر ما أمر به، وهو تشبيه المجمل بالمفصّل في تفصيله بأن يكون طبقه. ويؤول هذا المعنى إلى أن تكون الكاف في معنى على كما يقال كن كما أنت. أي لا تتغيّر، ولتشبه أحوالك المستقبلة حالتك هذه. { ومن تاب } عطف على الضمير المتّصل في { أمرت }. ومصحّح العطف موجود وهو الفصل بالجار والمجرور. { ومن تاب } هم المؤمنون، لأنّ الإيمان توبة من الشّرك، و { معك } حال من { تاب } وليس متعلّقاً بـ { تاب } لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن من المشركين. وقد جمع قوله { فاستقم كما أمرت } أصول الصّلاح الديني وفروعه لقوله { كما أمرتَ }. قال ابن عبّاس ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم آية هي أشدّ ولا أشق من هذه الآية عليه.

السابقالتالي
2