الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ ٱلْكِتَابَ فَٱخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ }

{ وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَىٰ ٱلْكِتَـٰبَ فَٱخْتُلِفَ فِيهِ } اعتراض لتثبيت النبي صلى الله عليه وسلم وتسليتِه بأنّ أهل الكتاب وهم أحسن حالاً من أهل الشّرك قد أوتوا الكتاب فاختلفوا فيه، وهم أهل مِلّة واحدة فلا تَأس من اختلاف قومك عليك، فالجملة عطف على جملةفلا تك في مرية } هود 109. ولأجل مَا فيها من معنى التّثبيت فُرع عليها قولهفاستقم كما أمرت } هود 112. وقوله { فاختلف فيه } أي في الكتاب، وهو التّوراة. ومعنى الاختلاف فيه اختلاف أهل التّوراة في تقرير بعضها وإبطال بعض، وفي إظهار بعضها وإخفاء بعض مثل حكم الرجم، وفي تأويل البعض على هواهم، وفي إلحاق أشياء بالكتاب على أنّها منه، كما قال تعالىفويل للّذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثمّ يقولون هذا من عند الله } البقرة 79. فهذا من شأنه أن يقع من بعضهم لا من جميعهم فيقتضي الاختلاف بينهم بين مُثبت ونافٍ، وهذا الاختلاف بأنواعه وأحواله يرجع إلى الاختلاف في شيء من الكتاب. فجمعت هذه المعاني جمعاً بديعاً في تعدية الاختلاف بحرف في الدالة على الظرفيّة المجازيّة وهي كالملابسة، أي فاختلف اختلافاً يلابسه، أي يلابس الكتاب. ولأنّ الغرض لم يكن متعلّقاً ببيان المختلفين ولا بذمّهم لأنّ منهم المذموم وهم الذين أقدموا على إدخال الاختلاف، ومنهم المحمود وهم المُنكرون على المبدّلين كما قال تعالىمنهم أمّةٌ مقتصدةٌ وكثيرٌ منهم ساء ما يعملون } المائدة 66 وسيجيء قولهوإن كُلا لَمَا ليوفينّهم ربك أعمالهم } هود 111، بل كان للتّحذير من الوقوع في مثله. بُني فعل اختلف للمجهول إذ لا غرض إلاّ في ذكر الفعل لا في فاعله. يجوز أن يكون عطفاً على جملةوإنّا لموفوهم نصيبهم غير منقوص } هود 109 ويكون الاعتراض تمّ عند قوله { فاختلف فيه } ، وعليه فضمير { بينهم } عائد إلى اسم الإشارة من قولهممّا يعبد هؤلاء } هود 109 أي ولولا ما سبق من حكمة الله أن يؤخّر عنهم العذاب لقضي بينهم، أي لقضى الله بينهم، فأهلك المشركين والمخالفين ونصر المؤمنين. فيكون { بينهم } هو نائب فاعل قُضي. والتّقدير لوقع العذاب بينهم، أي فيهم. ويجوز أن يكون عطفاً على جملة { فاختلف فيه } فيكون ضمير { بينهم } عائداً إلى ما يفهم من قوله { فاختُلف فيه } لأنّه يقتضى جماعة مختلفين في أحكام الكتاب. ويكون { بينهم } متعلّقاً بـقُضي، أي لحكم بينهم بإظهار المصيب من المخطىء في أحكام الكتاب فيكون تحذيراً من الاختلاف، أي أنّه إن وقع أمهل الله المختلفين فتركهم في شكّ. وليس من سنة الله أن يقضي بين المختلفين فيوقفهم على تمييز المحق من المبطل، أي فعليكم بالحذر من الاختلاف في كتابكم فإنّكم إن اختلفتم بقيتم في شك ولحقكم جزاء أعمالكم. و { الكلمة } هي إرادة الله الأزليّة وسنته في خلقه.

السابقالتالي
2