الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ ذَلِكَ مِنْ أَنْبَآءِ ٱلْقُرَىٰ نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ } * { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَـٰكِن ظَلَمُوۤاْ أَنفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ ٱلَّتِي يَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مِن شَيْءٍ لَّمَّا جَآءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ }

استئناف للتنويه بشأن الأنباء التي مَرّ ذكرُها. واسم الإشارة إلى المذكور كلّه من القصص من قصة نوح ـ عليه السلام ـ وما بعدها. والأنباء جمع نبأ، وهو الخبر، وتقدّم في سورة الأنعام 34 في قولهولقد جاءك من نبأى المرسلين } وجملة { نقصّه عليك } حال من اسم الإشارة. وعبّر بالمضارع مع أن القصص مضى لاستحضار حالة هذا القصص البليغ. وجملة { منها قائم وحصيد } معترضة. حال من { القرى }. و { قائم } صفة لموصوف محذوف دلّ عليه عطف { وحصيد } ، والمعنى منها زَرع قائم وزرع حصيد، وهذا تشبيه بليغ. والقائم الرزع المستقل على سُوقه. والحصيد الزرع المحصود، فعيل بمعنى مفعول. وكلاهما مشبّه به للباقي من القرى والعافي. والمرادُ بالقائم ما كان من القرى التي قصّها الله في القرآن قُرى قائماً بعضها كآثار بلد فرعون كالأهرام وبلهوبة وهو المعروف بأبي الهول وهيكل الكرنك بمصر، ومثل آثار نينوى بلد قوم يونس، وأنطاكية قرية المرسلين الثلاثة، وصنعاء بلد قوم تُبّع، وقرى بائدة مثل ديار عاد، وقرى قوم لوط، وقرية مدين. وليس المراد القرى المذكورة في هذه السورة خاصة. والمقصود من هذه الجملة الاعتبار. وضمير الغيبة في { ظلمناهم } عَائد إلى { القرى } باعتبار أهلها لأنّهم المقصود. وإنّما لم يظلمهم الله تعالى لأنّ ما أصابهم به من العذاب جزاء عن سوء أعمالهم فكانوا هم الظّالمين أنفسَهم إذ جرّوا لأنفسهم العذاب. وفرع على ظلمهم أنفسَهم انتفاء إغناء آلهتهم عنهم شيئاً، ووجه ذلك الترتب والتفريع أن ظلمهم أنفسهم مَظهره في عبادتهم الأصنام، وهم لمّا عبدوها كانوا يعبدونها للخلاص من طوارق الحدثان ولتكون لهم شفعاء عند الله وكانوا في أمن من أن ينالهم بأس في الدنيا اعتماداً على دفع أصنامهم عنهم فلمّا جاء أمرهم بضد ذلك كان ذلك الضدّ مضاداً لتأميلهم وتقديرهم. والغرض من هذا التفريع التعريض بتحذير المشركين من العرب من الاعتماد على نفع الأصنام، فقد أيقن المشركون أن أولئك الأمم كانوا يعبدون الأصنام كيف وهؤلاء اقتبسوا عبادة الأصنام من الأمم السّابقين وأيقنوا أنهم قد حَلّ بهم من الاستئصال ما شاهدوا آثاره، فذلك موعظة لهم لو كانوا مهتدين. وجملة { وما زادوهم غير تتبيب } عِلاوة وارتقاء على عدم نفعهم عند الحاجة بأنّهم لم يكن شأنهم عدم الإغناء عنهم فحسبُ ولكنهم زادتهم تتبيباً وخسراناً، أي زادتهم أسبابَ الخسران. والتتبيب مصدر تبّبه إذا أوقعه في التبَاب وهو الخسارة. وظاهر هذا أن أصنامهم زادتهم تتبيباً لمّا جاء أمر الله، لأنّه عطف على الفعل المقيّد بـ { لمّا } التوقيتية المفيدة أنّ ذلك كان في وقت مجيء أمر الله وهو حلول العذاب بهم. ووجه زيادتهم إياهم تتبيباً حينئذٍ أنّ تصميمهم على الطمع في إنقاذهم إيّاهم من المصائب حالت دونهم ودون التوبة عند سماع الوعيد بالعذاب. ويجوز أن يكون العطف لمجرّد المشاركة في الصفة دون قيدها، أي زادوهم تتبيباً قبل مجيء أمر الله بأنْ زادهم اعتقادهم فيها انصرافاً عن النظر في آيات الرّسل وزادهم تأميلهم الأصنام، وقد كانت خرافات الأصنام ومناقبها الباطلة مغرية لهم بارتكاب الفواحش والضلال وانحطاط الأخلاق وفساد التّفكير جرأة على رسل الله حتى حقّ عليهم غضب الله المستوجب حلول عذابه بهم.