الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ أَلْهَاكُمُ ٱلتَّكَّاثُرُ } * { حَتَّىٰ زُرْتُمُ ٱلْمَقَابِرَ } * { كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ } * { ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ }

{ ألهاكم } أي شغلكم عما يجب عليكم الاشتغالُ به لأن اللهو شغل يصرف عن تحصيل أمرٍ مهم. و { التكاثر } تفاعل في الكثْر أي التباري في الإِكثار من شيء مرغوب في كثرته. فمنه تكاثر في الأموال، ومنه تكاثر في العَدد من الأولاد والأحلاف للاعتزاز بهم. وقد فسرت الآية بهما قال تعالىوقالوا نحن أكثر أموالاً وأولاداً وما نحن بمعذبين } سبأ 35. وقال الأعشى
ولستَ بالأكْثر منهم حَصًى وإنما العِزة للكَاثر   
روى مسلم " عن عبد الله بن الشِّخِّير قال «انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول { ألهاكم التكاثر } قال يقول ابنُ آدم مالي مالي، وهل لك يا بن آدم من مالك إلا ما أكلتَ فأفنَيْت أو لَبست فَأَبْلَيْت أو تصدقت فأمضَيْت» " فهذا جارٍ مجرى التفسير لمعنى من معاني التكاثر اقتضاه حال الموعظة ساعتئذ وتحتمله الآية. والخطاب للمشركين بقرينة غلظة الوعيد بقوله { كلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون } وقولهلترون الجحيم } التكاثر 6 إلى آخر السورة، ولأن هذا ليس من خُلق المسلمين يومئذ. والمراد بالخطاب سادتُهم وأهلُ الثراء منهم لقولهثم لتسئلُنَّ يومئذٍ عن النعيم } التكاثر 8، ولأن سادة المشركين هم الذين آثاروا ما هم فيه من النعمة على التهمّم بتلقي دعوة النبي صلى الله عليه وسلم فتصدَّوا لتكذيبه وإغراء الدهماء بعدم الإِصغاء له. فلم يُذكَر المُلْهَى عنه لظهور أنه القرآن والتدبر فيه، والإِنصاف بتصديقه. وهذا الإِلهاء حصل منهم وتحقق كما دل عليه حكايته بالفعل الماضي. وإذا كان الخطاب للمشركين فلأن المسلمين يعلمون أن التلبس بشيء من هذا الخلق مذموم عند الله، وأنه من خصال أهل الشرك فيعلمون أنهم محذرون من التلبس بشيء من ذلك فيحذرون من أن يُلهيهم حب المال عن شيء من فعل الخير، ويتوقعون أن يفاجئهم الموت وهم لاهون عن الخير، قال تعالى يخاطب المؤمنيناعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته } الحديد 20 الآية. وقوله { حتى زرتم المقابر } غاية، فيحتمل أن يكون غاية لفعل { ألهاكم } كما في قوله تعالىقالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى } طه 91، أي دَام إلهاء التكاثر إلى أن زرتم المقابر، أي استمرّ بكم طولَ حياتكم، فالغاية مستعملة في الإِحاطة بأزمان المغيَّا لا في تنهيته وحصول ضده لأنهم إذا صاروا إلى المقابر انقطعت أعمالهم كلها. ولكون زيارة المقابر على هذا الوجه عبارة عن الحلول فيها، أي قبورَ المقابر. وحقيقة الزيارة الحلول في المكان حلولاً غير مستمر، فأطلق فعل الزيارة هنا تعريضاً بهم بأن حلولهم في القبور يعقبه خروج منها. والتعبير بالفعل الماضي في { زُرتم } لتنزيل المستقبل منزلة الماضي لأنه محقق وقوعه مثل

السابقالتالي
2