الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ } * { فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ } * { وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ } * { فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ } * { وَمَآ أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ } * { نَارٌ حَامِيَةٌ }

تفصيل لما في قولهيوم يكون الناس كالفراش المبثوث } القارعة 4 من إجمال حال الناس حينئذ، فذلك هو المقصود بذكر اسم الناس الشامل لأهل السعادة وأهل الشقاء فلذلك كان تفصيله بحالين حال حَسَن وحال فظيع. وثقل الموازين كناية عن كونه بمحل الرضى من الله تعالى لكثرة حسناته، لأن ثقل الميزان يستلزم ثقل الموزون وإنما توزن الأشياء المرغوب في اقتنائها، وقد شاع عند العرب الكناية عن الفضل والشرف وأصالة الرأي بالوزن ونحوهِ، وبضد ذلك يقولون فلان لا يقام له وزن، قال تعالىفلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً } الكهف 105، وقال النابغة
وميزانه في سُورة المجد مَاتِع   
أي راجح وهذا متبادر في العربية فلذلك لم يصرح في الآية بذكر ما يُثقل الموازين لظهور أنه العمل الصالح. وقد ورد ذكر الميزان للأعمال يوم القيامة كثيراً في القرآن، قال ابن العربي في «العواصم» لم يرد حديث صحيح في الميزان. والمقصودُ عدم فوات شيء من الأعمال، والله قادر على أن يجعل ذلك يوم القيامة بآلة أو بعمل الملائكة أو نحو ذلك. والعيشة اسم مصدر العَيش كالخِيفة اسم للخوف. أي في حياة. ووصف الحياة بــــ { راضية } مجاز عقلي لأن الراضي صاحبها راض بها فوصفت به العيشة لأنها سبب الرضى أو زمان الرضى. وقوله { فأمُّه هاوية } إخبار عنه بالشقاء وسوء الحال، فالأم هنا يجوز أن تكون مستعملة في حقيقتها. وهاوية هالكة، والكلام تمثيل لحال من خفّت موازينه يومئذ بحال الهالك في الدنيا لأن العرب يكنون عن حال المرء بحال أمه في الخير والشر لشدة محبتها ابنها فهي أشد سروراً بسروره وأشد حزناً بما يحزنه. صلّى أعرابي وراءَ إمام فقرأ الإِمامواتخذ اللَّه إبراهيم خليلاً } النساء 125 فقال الأعرابي «لقد قَرَّت عينُ أمِّ إبراهيم» ومنه قول ابن زيابة حين تهدده الحارث بن همَّام الشيباني
يا لهفَ زيّابة للحارث الصا بح فالغَانم فالآيب   
ويقولون في الشر هَوتْ أمه، أي أصابه ما تَهلك به أمه، وهذا كقولهم ثكلته أمه، في الدعاء، ومنه ما يستعمل في التعجب وأصله الدعاء كقول كعب بن سعد الغَنوي في رثاء أخيه أبي المِغوار
هَوَتْ أمُّه ما يَبعث الصبحُ غادياً وماذا يَرُدُّ الليلُ حينَ يؤوب   
أي ماذا يبعث الصبحُ منه غادياً وما يردُّ الليلُ حينَ يؤوب غانماً، وحذف منه في الموضعين اعتماداً على قرينة رفع الصبح والليل وذِكر غادياً ويؤوب ومِن المقدَّرة تجريدية فالكلام على التجريد مثل لقيت منه أسداً. فاستعمل المركب الذي يقال عند حال الهلاك وسوء المصير في الحالة المشبهة بحال الهلاك، ورمز إلى التشبيه بذلك المركب، كما تضرب الأمثال السائرة. ويجوز أن يكون «أمه» مستعاراً لمقره ومآله لأنه يأوي إليه كما يأوي الطفل إلى أمه.

السابقالتالي
2