الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ ٱلْقَارِعَةُ } * { مَا ٱلْقَارِعَةُ } * { وَمَآ أَدْرَاكَ مَا ٱلْقَارِعَةُ }

الافتتاح بلفظ { القارعة } افتتاح مهول، وفيه تشويق إلى معرفة ما سيخبر به. وهو مرفوع إما على الابتداء و { ما القارعة } خبره ويكون هناك منتهى الآية. فالمعنى القارعة شيء عظيم هي. وهذا يجري على أن الآية الأولى تنتهى بقوله { ما القارعة }. وإمّا أن تكون { القارعة } الأولُ مستقلاً بنفسه، وعُدّ آية عند أهل الكوفة فيقدر خبرٌ عنه محذوف نحو القارعة قريبة، أو يقدر فعل محذوف نحو أتتْ القارعة، ويكون قوله { ما القارعة } استئنافاً للتهويل، وجُعل آية ثانية عند أهل الكوفة، وعليه فالسورة مسمطة من ثلاث فواصل في أولها وثلاث في آخرها وفاصلتين وسطها. وإعادة لفظ { القارعة } إظهار في مقام الإِضمار عدل عَنْ أن يقال القارعة ماهِيهْ، لما في لفظ القارعة من التهويل والترويع، وإعادة لفظ المبتدأ أغنت عن الضمير الرابط بين المبتدأ وجملة الخبر. والقارعة وصف من القرع وهو ضرب جسم بآخر بشدة لها صوت. وأطلق القرع مجازاً على الصوت الذي يتأثر به السامع تأثُّر خوف أو اتعاظ، يقال قَرع فُلاناً، أي زجره وعَنَّفه بصوت غضب. وفي المقامة الأولى «ويقرع الأسماع بزواجر وعظه». وأطلقت { القارعة } على الحدث العظيم وإن لم يكن من الأصوات كقوله تعالىولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة } الرعد 31 وقيل تقول العرب قرعت القوم قارعة، إذا نزل بهم أمر فظيع ولم أقف عليه فيما رأيت من كلام العرب قبل القرآن. وتأنيث { القارعة } لتأويلها بالحادثة أو الكائنة. و { ما } استفهامية، والاستفهام مستعمل في التهويل على طريقة المجاز المرسل المركب لأن هول الشيء يستلزم تساؤل الناس عنه. فــــ { القارعة } هنا مراد بها حادثة عظيمة. وجمهور المفسرين على أن هذه الحادثة هي الحشر فجعلوا القارعة من أسماء يوم الحشر مثل القيامة، وقيل أريد بها صيحة النفخة في الصُّور، وعن الضحاك القارعة النار ذات الزفير، كأنه يريد أنها اسم جهنم. وهذا التركيب نظير قوله تعالىالحَاقّة ما الحاقة وما أدراك ما الحاقة } الحاقة 1 ـــ 3 وقد تقدم. ومعنى { وما أدراك ما القارعة } زيادة تهويل أمر القارعة و { ما } استفهامية صادقة على شخص، والتقدير وأي شخص أدراك، وهو مستعمل في تعظيم حقيقتها وَهَوْلها لأن هول الأمر يستلزم البحث عن تعرفة. وأدراك بمعنى أعلمك. و { ما القارعة } استفهام آخر مستعمل في حقيقته، أي ما أدراك جواب هذا الاستفهام. وسدّ الاستفهام مَسدَّ مفعولي { أدراك }. وجملة { وما أدراك ما القارعة } عطف على جملة { ما القارعة }. والخطاب في { أدراك } لغير معين، أي وما أدراك أيها السامع. وتقدم نظير هذا عند قوله تعالىالحاقة ما الحاقة وما أدراك ما الحاقة } الحاقة 1 ـــ 3 وتقدم بعضه عند قوله تعالىوما أدراك ما يوم الدين } في سورة الانفطار 17.