الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَآ إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ ٱلخِزْيِ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَىٰ حِينٍ }

الفاء لتفريع التغليط على امتناع أهل القرى من الإيمان بالرسل قبل أن ينزل بهم العذاب على الإخبار بأن الذين حقت عليهم كلمة الله أن لا يؤمنوا لا يؤمنون حتى يروا العذاب فإن أهل القرى من جملة الذين حقت عليهم الكلمة بأن لا يؤمنوا. والغرض من ذكر أهل القرى التعريض بالمقصود، وهم أهل مكة فإنهم أهل قرية فكان ذلك كالتخلص بالتعريض إلى المخصوصين به، وللإفضاء به إلى ذكر قوم يونس فإنهم أهل قرية. ولولا حرف يرد لمعان منها التوبيخ، وهو هنا مستعمل في لازم التوبيخ كناية عن التغليط، لأن أهل القرى قد انقضوا، وذلك أن أصل معنى لولا التحضيض، وهو طلب الفعل بحَثّ، فإذا دخلت على فعل قد فات وقوعه كانت مستعملة في التغليط والتنديم والتوبيخ على تفويته، ويكون ما بعدها في هذا الاستعمال فعل مضي مثل قوله تعالىولَولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا } النور 16. وإذا توجه الكلام الذي فيه لولا إلى غير صاحب الفعل الذي دخلت عليه كانت مستعملة في التعجيب من حال المتحدث عنه، كقولهلولا جاءوا عليه بأربعة شهداء } النور 13 وقولهفلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا } الأنعام 43 وهذه الآية أصرح في ذلك لوجود كان الدالة على المضي والانقضاء. والمقصود التعريض بأن مشركي أهل مكة يوشك أن يكونوا على سنَن أهل القرى. قال تعالىما آمنتْ قبلهم من قرية أهلكناها أفَهُم يؤمنون } الأنبياء 6، ونظير هذه الآية استعمالاً ومعنى قوله تعالىفلولا كان من القرون من قبلكم أولُوا بقيّة ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلاً ممن أنجينا منهم } هود 116، وذلك تعريض بتحريض أهل مكة على الإيمان قبل نزول العذاب. والمستخلص من الروايات الواردة في قوم يونس أنهم بادروا إلى الإيمان بعد أن فارقهم يونس، توقعاً لنزول العذاب، وقبل أن ينزل بهم العذاب، وذلك دليل على أن معاملة الله إياهم ليست مخالفة لما عامل به غيرهم من أهل القرى، وأن ليست لقوم يونس خصوصية، وبذلك لا يكون استثنائهم استثناءاً منقطعاً. وإذ كان الكلام تغليطاً لأهل القرى المعرضين عن دعوة الرسل، وتعريضاً بالتحذير مما وقعوا فيه. كان الكلام إثباتاً صريحاً ووقوع قرية وهو نكرة في مساق الإثبات أفاد العموم بقرينة السياق مثل قول الحريري «يا أهل ذا المغْنَى وقيتم ضُراً» أي كل ضر لا ضراً معيناً، وبقرينة الاستثناء فإنه معيار العموم، وهذا الاستثناء من كلام موجب فلذلك انتصب قوله { إلا قومَ يونس } فهذا وجه تفسير الآية. وجرى عليه كلام العُكبري في «إعراب القرآن»، والكواشي في «التخليص» وجمهور المفسرين جعلوا جملة { فلولا كانت قرية آمنت } في قوة المنفية، وجعلوا الاستثناء منقطعاً منصوباً ولا داعي إلى ذلك.

السابقالتالي
2 3