الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ ٱلْمُفْسِدِينَ } * { فَٱلْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ ٱلنَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ }

مقول لقول حذف لدلالة المقام عليه، تقديره قال الله. وهو جواب لقولهآمنت } يونس 90 لأنه قصد بقوله ذلك طلبَ الإنجاء من الغرق اعترافاً لله بالربوبية، فكأنه وجه إليه كلاماً. فأجابه الله بكلام. وقال الله هذا الكلام له على لسان الملَك الموكل بتعذيبه تأييساً له من النجاة في الدنيا وفي الآخرة، تلك النجاة التي هي مأمولة حين قالآمنت } يونس 90 إلى آخره، فإنه ما آمن إلا وقد تحقق بجميع ما قاله موسى، وعلم أن ما حل به كان بسبب غضب الله، ورجا من اعترافه له بالوحدانية أن يعفو عنه وينجيه من الغرق. ويدل على ذلك قول الله عقب كلامه { فاليوم ننجيك ببدنك } كما سيأتي. والاستفهام في { ألآن } إنكاري. والآن ظرف لفعل محذوف دل عليه قولهآمنتُ } يونس 90 تقديره الآن تؤمن، أي هذا الوقت. ويقدر الفعل مؤخراً، لأن الظرف دل عليه، ولأن محط الإنكار هو الظرف. والإنكار مؤذن بأن الوقت الذي عُلق به الإنكار ليس وقتاً ينفع فيه الإيمان لأن الاستفهام الإنكاري في قوة النفي، فيكون المعنى لا إيمان الآن. والمنفي هو إيمانٌ ينجي مَن حصل منه في الدنيا والآخرة. وإنما لم ينفعه إيمانه لأنه جاء به في وقت حصول الموت. وهو وقت لا يقبل فيه إيمان الكافر ولا توبة العاصي، كما تقدم عند قوله تعالىوليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبتُ الآن ولا الذين يموتون وهم كفّار } النساء 18. والآن اسم ظرف للزمان الحاضر... وقد تقدم عند قوله تعالىالآن خفَّف الله عنكم } في سورة الأنفال 66.وجملة وقد عصيتَ قبلُ وكنتَ من المفسدين } في موضع الحال من معمول تؤمن المحذوف، وهي موكدة لما في الاستفهام من معنى الإنكار، فإن إيمانه في ذلك الحين منكر، ويزيده إنكاراً أن صاحبه كان عاصياً لله ومفسداً للدين الذي أرسله الله إليه، ومفسداً في الأرض بالجور والظلم والتمويه بالسحر. وصيغة { كنتَ من المفسدين } أبلغ في الوصف بالإفساد من وكنتَ مُفسداً، كما تقدم آنفاً، وبمقدار ما قدّمه من الآثام والفساد يشدّد عليه العذاب. والفاء التي في قوله { فاليوم } فاء الفصيحة، تفصح عن شرط مقدر في الكلام يدل عليه السياق. والمعنى فإن رمتَ بإيمانك بعد فوات وقته أن أُنجيك من الغرق فاليوم ننجيك ببدنك، والكلام جار مجرى التهكم، فإطلاق الإنجاء على إخراجه من البحر استعارة تهكمية. وليس مسوغها التهكم المحض كما هو الغالب في نوعها، بل فيها علاقة المشابهة، لأن إخراجه إلى البر كاملاً بشكّته يشبه الإنجاء، ولكنه ضد الإنجاء، فكان بالمشابهة، استعارة، وبالضدية تهكماً، والمجرور في قوله { ببدنك } حال. والأظهر أن الباء من قوله { ببدنك } مزيدة للتأكيد، أي تأكيد آية إنجاء الجسد، فيكون قوله بدنك في معنى البدل المطابق من الكاف في { ننجيك } كزيادة الباء في قول الحريري «فإذا هو أبو زيد بعينه ومَينه».

السابقالتالي
2 3