الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ فَمَآ آمَنَ لِمُوسَىٰ إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَىٰ خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي ٱلأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ ٱلْمُسْرِفِينَ }

تفريع على ما تقدم من المحاورة، أي فتفرع على ذلك أن فرعون وملأه لم يؤمنوا بموسى لأن حصر المؤمنين في ذرية من قوم موسى يفيد أن غيرهم لم يؤمنوا وهو المقصود، فكانت صيغة القصر في هذا المقام إيجازاً. والتقدير تفرع على ذلك تصميم على الإعراض. وقد طوي ما حدث بين المحاورة وبين تصميمهم على الإعراض، وهو إلقاء موسى عصاه والتقامُها ما ألقوه من سحرهم، لعدم تعلق الغرض ببيان ذلك إذ المقصود الإفضاء إلى أنهم صمموا على الإعراض لأن ذلك محل تمثيل أعمالهم بحال مشركي أهل مكة. وفعل { آمن } أصله أَأْمن بهمزتين إحداهما أصلية في الكلمة لأن الكلمة مشتقة من الأمانة، والثانية همزة مزيدة للتعدية، أي جعله ذَا أمانة، أي غير كاذب فصار فعل { آمن } بمعنى صدّق، وحقه أن يعدى إلى المفعول بنفسه ولكن عدي باللام للتفرقة بين آمن بمعنى صدّق من الأمانة وبين آمن بمعنى جَعله في أمن، أي لا خوف عليه منه. وهذه اللام سماها ابنُ مالك لامَ التبيين وتبعه ابن هشام، وهي تدخل على المفعول لتقوية معنى المفعولية، ويؤكد قصد التقوية في مثل فعل آمن بمعنى صدّق دفعُ أن يلتبس بفعل آمنه إذا جعله في أمن وسيأتي في قوله تعالىوقالوا لن نؤمن لك } في سورة الإسراء 90. وقد يعدى بالباء لتضمنه معنى صدّق كما في قوله تعالىقال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل } يونس 90. والذرية الأبناء وتقدم في قولهذُرية بعضها من بعض } في سورة آل عمران 34. أي فما آمن بما جاء به موسى إلا أبناء بني إسرائيل ولم تبلغ دعوته بقية قومه أو لم يؤمر بالتبليغ إليهم حينئذٍ. وعلى في قوله { على خوف من فرعون } بمعنى مع مثل وآتى المال على حبه أي آمنوا مع خوفهم، وهي ظرف مستقر في موضع الحال من ذرية، أي في حال خوفهم المتمكن منهم. وهذا ثناء عليهم بأنهم آمنوا ولم يصدهم عن الإيمان خَوفهم من فرعون. والمعنى أنهم آمنوا عند ظهور معجزته، أي أعلنوا الإيمان به في ذلك الموطن لأن الإيمان لا يعرف إلا بإظهاره ولا فائدة منه إلا ذلك الإظهار. أي من الحاضرين في ذلك المشهد من بني إسرائيل فإن عادة هذه المجامع أن يغشاها الشباب واليافعون فعبر عنهم بالذرية أي الأبناء، كما يُقال الغلمان، فيكونون قد آمنوا من تلقاء أنفسهم، وكل هذا لا يقتضي أن بقية قومه كفروا به، إذ يحتمل أن يكونوا آمنوا به بعد ذلك لما بلغتهم دعوته لأنه يكون قد ابتدأ بدعوة فرعون مبادرة لامتثال الأمر من الله بقولهاذهبا إلى فرعون إنه طغى }

السابقالتالي
2