الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ قَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ هُوَ ٱلْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰت وَمَا فِي ٱلأَرْضِ إِنْ عِندَكُمْ مِّن سُلْطَانٍ بِهَـٰذَآ أَتقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ }

بيان لجملةألا إن لله مَن في السماوات ومَن في الأرض } يونس 66 إلى آخرها، وفي هذا البيان إدماج بحكاية فن من فنون كفرهم مغاير لادعاء شركاء لله، لأن هذا كفر خفي من دينهم، ولأن الاستدلال على إبطاله مغاير للاستدلال على إبطال الشركاء. فضمير { قالوا } عائد إلىالذين يدعون من دون الله شركاء } يونس 66 أي قال المشركون { اتخذ الله ولداً }. وليس المراد من الضمير غيرَهم من النصارى لأن السورة مكية والقرآن المكي لم يتصد لإبطال زيغ عقائد أهل الكتاب، ذلك أن كثيراً منهم كانوا يزعمون أن لله بنات هم الملائكة، وهم بناته من سَروات نساء الجن، ولذلك عَبَدت فرق من العرب الجن قال تعالىويوم يحشرهم جميعاً ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون قالوا سبحانك أنت وَليُّنا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون } سبأ 40، 41. والاتخاذ جعل شيء لفائدة الجاعل، وهو مشتق من الأخذ لأن المتخذ يأخذ الشيء الذي يصطفيه. وقد تقدم في قوله تعالىأتتخذ أصناماً آلهة } في سورة الأنعام 74، وقولهوإن يَروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلاً } في الأعراف 146، فالاتخاذ يصدق على أخذ شيء موجود للاستئثار به، ويصدق على تكوين شيء للانتفاع به. وهو هنا صالح للمعنيين لأن منهم مَن يعتقد تولد الولد عن الله تعالى، ومنهم مَن يعتقد أن الله تبنَّى بعض مخلوقاته. والولد اسم مصوغ على وزن فَعَل مثل عَمَد وعرب. وهو مأخوذ من الولادة، أي النتاج. يقال ولدت المرأة والناقة، ولعل أصل الولد مصدر ممات على وزن فعل مثل الفَرح. ومن أجل ذلك أطلق على الواحد والجمع كما يوصف بالمصدر. يقال هؤلاء ولد فلان. وفي الحديث أنا سيد ولَدِ آدمِ والمراد هنا الجمع لأنهم قالوا الملائكة بنات الله استولدها من سروات الجن قال تعالىويجعلون لله البنات سبحانه } النحل 57. وجملة { سبحانه } إنشاء تنزيه للرد عليهم، فالجملة جواب لذلك المقال ولذلك فصلت عن التي قبلها. وهو اسم مصدر لـسَبَّح إذا نزّه، نائب عن الفعل، أي نسبحه. وتقدم عند قوله تعالىقالوا سبحانك لا علم لنا } في سورة البقرة 32، أي تنزيهاً لله عن هذا لأن ما قالوه يستلزم تنقيص الله تعالى، ولذلك بُينت جملةُ التنزيه بجملة { هو الغني } بياناً لوجه التنزيه، أي هو الغني عن اتخاذ الولد، لأن الإلهية تقتضي الغنى المطلق عن كل احتياج إلى مُكمِل نقص في الذات أو الأفعال، واتخاذ الولد إما أن ينشأ عن اندفاع طبيعي لقضاء الشهوة عن غير قصدِ التوليد وكونُها نقصاً غير خفي، وإما أن ينشأ عن القصد والتفكير في إيجاد الولد، وذلك لا يكون إلا لسد ثلمة نَقص من حاجة إلى معنى في الحياة أو خَلَف بعد الممات.

السابقالتالي
2